تاريخ الدرس: 1994/03/04

في رحاب التفسير والتربية القرآنية

مدة الدرس: 01:32:49

سورة الحاقة، الآيات: 13-37 / الدرس 2

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصَّلوات وأعطر التحيات على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّد سيِّد الأولين والآخرين والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى أهل بيته وعترته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده، فنشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

الحاقة اسم من أسماء القيامة:

فنحن الآن في تفسير بعض آيات من سورة الحاقّة، ﴿الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1] اسم من أسماء يوم القيامة، ولها أسماء كثيرة في القرآن، منها: الحاقة، ومنها: الواقعة، ويوم الفصل: الفصل بين الظّالم والمظلوم، وبين الحقّ والمحقِّ والباطل والمبطل.

والإيمان بالبعث والقيامة موجود في كلّ أديان السّماء؛ لأنّ أديان السّماء وأنبياء الله عزَّ وجلَّ كلّهم أُرسِلوا بالإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصّالح فيما بين الإنسان وربّه؛ لتزكو نفسه وتتحسّن أخلاقه، ويزداد سعادة بروح ربّه التي تنعش روحه، وتُفرِغ فيها من روح قُدس الله عزَّ وجلَّ ما يجعل سعادته مستقرة دائمة في الدّنيا قبل الدّار الآخرة.

سبب تسمية يوم القيامة بالحاقة:

سميّت ﴿الْحَاقَّةُ بهذا الاسم لأن الله عزَّ وجلَّ ذكر فيها تحقيق وعده للمؤمنين بما وعد المؤمنين من سعادة الدنيا: بالغنى، والنصر على الأعداء، والتقدم في ميادين الحياة ودرجات العز والمجد، إنْ كان في الدّنيا وهذا ما رآه المؤمنون الأُوَل والمسلمون الأول، فقد رأوه في الدّنيا قبل الدّار الآخرة، فجعلهم الله عزَّ وجلَّ ملوك الأرض، وجعلهم أعزَّ أهل الأرض، وجعلهم ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]، وجعلهم أرقى دولة وُلِدت في تاريخ الإنسان.

لم يكن في عهد النبي ﷺ سجون، فإذا أذنب المسلم لا يحتاج إلى شرطة تلاحقه، بل كان إيمانه يلاحقه، فعندما كان يذنب الذّنب يأتي إلى المسجد، ولم تكن هناك محكمة تقاضيه وتعاقبه، فهو الشّرطي الذي يقود نفسه، وهو القاضي الذي يحكم على نفسه، وهو المنفِّذ على نفسه.

فأبو لبابة رضي الله عنه كان من أصحاب رسول الله ﷺ، لمّا أرسله النبي ﷺ سفيرًا يفاوض يهود بني قريظة، فحصل منه خطأ أثناء المفاوضة، فعلم- بإيمانه الحي الذي هو حياة الضّمير والوجدان، ومن لا إيمان له فلا وجدان ولا ضمير له، فالوجدان جسد والإيمان روحه- أنّه قد أخطأ فأتى إلى المسجد، والمسجد كان مدرسةً وجامعةً ومحكمةً وفي نفس الوقت كان سجنًا، فيُسجَن المؤمن في الجامعة، ويُسجَن المريض في المستشفى، فربط نفسه في سارية- عمود من أعمدة المسجد.

وحلف ألا يأكل ولا يشرب ولا ينام، أو يغفر الله له وينزل مغفرته من السّماء عن طريق جبريل عليه السَّلام إلى رسول الله ﷺ، وربط نفسه بحبل في العمود وقوفًا، لا يُفَك إلّا عند وضوئه وعند صلاته، فالمذنب صار هو القاضي وهو المدّعي وهو الشاهد، وأيُّ حكم؟ لا يوجد محكمة في الدّنيا تقاصُّ المذنب كما الذي يقاصّه وجدان المسلم وإيمانه إذا أخطأ أو أذنب.

المجرم هو الذي يعاقب نفسه:

فبالله أنشدكم: هل رأيتم في تاريخ الإنسان أمّةً ومجتمعًا، يقاضي المجرم فيه والجاني فيه نفسه، وهو الذي يجازيها ويقاصُّها، وأيّ قصاص وأيّ جزاء؟ هل هناك محكمة في الدّنيا تحرِّم الطعام على السّجين؟ أو تحكم عليه أن يقف على قدميه ليله ونهاره، أو تمنعه من النّوم ليله ونهاره؟ هكذا كانت ثقافة الإسلام وتربيته في تهذيب الإنسان حتَّى جعلته بهذا المستوى الذي عجزت كلّ علماء وفلاسفة ودول الأرض أن تضع قانونًا إيمانيًّا وجدانيًّا تقود به المذنب والمجرم إلى أن يكون هو الشّاهد على نفسه، وهو الحاكم القاضي على نفسه، وهو السّجان لنفسه، وهو الحارس عليه في سجنه.

فهل قرأتم أو رأيتم أو سمعتم أمةً وصلت في التّقدّم الأخلاقي إلى هذا المستوى؟ هذه نقطة من بحر المحيط الإسلامي في تقدّم المجتمع الإسلامي إذا وُجِد مهندس الإسلام في عقله حكمةً، وفي قلبه نورًا، وفي صدره انشراحًا، وفي سلوكه أخلاقًا وسلوكًا.

الغاية من ذكر قصص الأمم السابقة في القرآن الكريم:

فآمَنوا بالحاقة، وآمنوا بالحساب، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة؛ لأنّ الله عزَّ وجلَّ ذكر في سورة الحاقة محاسبة الأمم في الدّنيا، وعقوبة المذنب في الدّنيا قبل الدّار الآخرة، فذكر ما عاقب به عادًا قوم هود، وثمود قوم صالح، وفرعون، وقوم لوط.. هذا القَصَص كان كلّه لتربية الإنسان المسلم والمسلمة، فحين يذكِّرك الله عزَّ وجلَّ بما فعل بقوم عاد، وأرسل عليهم ﴿رِيحًا صَرْصَرًا [فصلت: 16]، فهذا تذكير من الله عزَّ وجلَّ لك أيّها المؤمن والمؤمنة: فإيّاك أن تبارز الله وتحاربه، فهكذا يفعل الله بمن يتحدّى الله عزَّ وجلَّ ولا يلبّي نداءه ولا يستجيب لأمره.

كذلك إذا قرأت قصة ثمود قوم صالح، فهذا درس لك أيّها القارئ، وأيّتها القارئة، وأيّها المستمع، وأيّتها المستمعة.. وإذا أسمعك القرآن فرعونَ وإغراق الله عزَّ وجلَّ له، فإيّاك أن تكون فرعون زمانك، تفرعن فرعون على قوم موسى عليه السَّلام، وقد تكون أنت فرعونًا على زوجتك، أو على زوجكِ، أو على أجيرك، أو على أي ضعيف من مخلوقات الله عزَّ وجلَّ.

فعاقب الله عزَّ وجلَّ فرعون مع مدة الإمهال التي أمهله إياها.. فلا تغترّ بحلم الله عليك وأنت تواصل معاصيه وتهمل فرائضه، وتخشى النَّاس وهم لا ينفعونك ولا يضرونك، ولا تخشى الله الذي خلقك وكنت حيوانًا منويًّا لا تراه العيون.

أصل خلق الإنسان:

قال العلماء: “لو وُضِع رأس الإبرة في المني، فما يعلق برأس الإبرة خمسون ألف حيوان منوي، فرؤساء الجمهوريات، وأصحاب الجلالة والملوك، وأصحاب المعالي والدّولة، ورؤساء الجامعات، والمفتون، والأنبياء؛ كلّهم كانوا ذلك الحيوان المنوي.. فإذا جعل لك ﴿عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد: 9]، وجعل لك السّمع والأبصار والأفئدة، وخلقك في أحسن تقويم، أتتحدّى الله عزَّ وجلَّ فتقول له: “هل من مصارع؟ أنا أتحداك يا الله!” وتقول: “أنا لا أبالي بأوامرك فسأهجرها، ولا أبالي بقانونك ومحارمك فسأرتكبها، ولا أخاف من تهديدك وعذابك فأنا أقوى”، فهذا لسان حال العاصي لله، الذي يصمّ أذنيه عن رسالة الله القرآن، وعن تحذير القرآن للإنسان بـسورة ﴿الْحَاقَّةُ.

فنحن نقرؤها ونسمعها ونحفظها، فهل تمثّلت في قلوبنا إيمانًا بلقاء الله عزَّ وجلَّ وإيمانًا بالقيامة وإيمانًا بمحاسبة الله على أعمالنا وعلى ظلمنا، وعلى غشّنا، وعلى تعدّينا، وعلى أكلنا للحرام، وعلى إهمالنا لفرائض الله عزَّ وجلَّ ووصاياه؟ فعندما يأكل الإنسان ينزل الأكل في جهاز الهضم، فينقلب دمًا، فيتمثّل طاقةً وقوةً، فتبصر العين، وتعمل اليد، وتشتغل الأعضاء؛ فهل إذا قرأنا القرآن أو سمعناه يتمثل فينا إيمانًا بالآخرة يوقفنا عند حدود الله لا نتجاوزها إلى ما حرّم الله؟ وهل تتمثّل فينا تلاوة القرآن طاقةً تعطينا القوّة على الاستجابة والامتثال لأوامر الله عزَّ وجلَّ، ولو كان فيها بذل الرّوح والحياة والمال وغضب النَّاس كلّهم؟

ثمرة الإيمان باليوم الآخر:

قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [المجادلة: 22] ما اليوم الآخر؟ هو ﴿الْحَاقَّةُ هو القيامة والقارعة والواقعة ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يحبّ من يعصي الله عزَّ وجلَّ، ويحبّ من يحارب الله عزَّ وجلَّ ورسوله ﷺ ودينه، ﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ الذين يحملون هذه الصّفات ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة: 22] ولا تكونوا كالذين ﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة: 41].

فالإيمان إذا دخل في القلب، وإذا دخل النّور في القلب انشرح له الصّدر وانفسح، قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1]، وقال أيضًا: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ الذين لم تشتغل قلوبهم بذكر الله- قلوبهم وليس ألسنتهم- ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22].

مرّ معكم في الدّرس الماضي ذكر الأقوام الذين لم يستجيبوا لله عزَّ وجلَّ، كقوم هود وقوم صالح وفرعون والمؤتفكات؛ القرى المؤتفكة التي انقلبت وجعل الله عاليها سافلها وأهلك من فيها، ومنهم زوجة لوط عليه السَّلام، مع أنّها كانت زوجة نبي فما أنجاها قربها الجسدي مع بعدها القلبي والإيماني والرّوحي.

النّفخ في الصّور:

ثمّ تدخل السّورة في التّفصيل، قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ [الحاقة: 13]، الصّور: هو عبارة عن بوق مثل الذي يجتمع الجيش حين يُنفَخ فيه، ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ يعني في البوق، وبوق الآخرة غير بوق الدّنيا، سمّاه الله عزَّ وجلَّ صورًا، والصّور هو اسم البوق في اللّغة.

﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ [الحاقة: 13] فلا يحتاج إلى خمسين نفخة، فبهذه النفخة يبعث الله عزَّ وجلَّ من في القبور، ويُعاد إليك جسدك، وتدخل فيه روحك، وتنشق الأرض فتخرج إلى المحكمة الإلهيّة، والملّفات قد كَتَبَتْها لك أو عليك ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [الانفطار: 10] لأعمالكم لا يضيّعون منها، في كتاب ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف: 49] مهما صغر من الذّنوب ومهما عظم من الجرائم، فكلّه مسجل عليك.

الحساب على العمل:

فهل آمنت بالقرآن؟ وهل آمنت بهذه الآية؟ ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا في الصّحائف، وعند الحساب ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] بل يقول لك: أنا لا أحاكمك، وحاكم نفسك بنفسك ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء: 14] لماذا سرقت؟ انظر كيف وأنت تسرق تلتفت يمينًا وشمالًا، هل يراك من أحد؟ ألم تؤمن بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] فيا أيّها الحاقد والماكر والمخادع هل آمنت بأنّ ﴿اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 119]؟ وهل آمنت بأنّ الله ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل: 19]؟ وهل آمنت ﴿أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 231]؟

وهل آمنت ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا مشاهدين لأعمالكم ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ لا يغيب ﴿مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ من الذّرّة من عمل الخير أو من عمل الشّرّ ﴿وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61]؟ فإذا تربّى المجتمع بمدرسة القرآن فهل يحتاج إلى شرطة أو إلى سجون أو إلى محاكم أو إلى قضاة أو إلى ميزانية وزارة العدل أو إلى ميزانية الشّرطة أو إلى ميزانية السّجون؟

غيّر القرآن حال العرب:

فلمّا آمن أصحاب رسول الله ﷺ بقلوبهم بهذا القرآن، إيمان القلوب لا إيمان الألسنة كما هو عليه كثير من النَّاس، ففي عهد رسول الله ﷺ كانت تُعَدُّ الجرائم على أصابع اليدين، وقبل الإسلام في جزيرة العرب كان الأخ يقتل أخاه، والأب يقتل ابنه من الجوع، ويدفن ابنته خشية العار، واستمر القتال بين الأوس والخزرج أربعين سنة.. وإذا بنور القرآن ونور سيِّدنا رسول الله ﷺ تُطفئ كلّ هذه النّيران، فتأتي المرأة الظّعينة المسافرة من الحيرة إلى مكة، تقطع أكثر من ألف كيلو متر لا تخاف في طريقها أحدًا إلا الله عزَّ وجلَّ والذّئب.

هذا هو السَّلام، ومن أين أتى السَّلام؟ من الإيمان، لكن الذي ملأ القلب نورًا وخشيةً ومخافةً ومسارعةً إلى مرضاة الله عزَّ وجلَّ.. وكيف يكون هذا الإيمان؟ لا بدّ لهذا الإيمان من صانع، كان صانعه هو الذي ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [البقرة: 129] فهل تعلَّم المسلمُ القرآنَ؟ فتعلُّم التّلاوة وحفظ ألفاظ القرآن شيء جميل وحسن، لكنّ المراد أن تتعلّم الإيمان به، وأن ينقلب القرآن فيك عند قراءته وسماعه، فإن كان أمرًا ينقلب فيك إلى طاعةٍ وامتثال، وإذا كان دعوةً ينقلب فيك إلى تلبيةٍ واستجابة، وإذا كان حرامًا ينقلب فيك إلى وقوفٍ وجمود فلا تتحرك سنتيمترًا نحو محارم الله عزَّ وجلَّ.. هذا هو الإيمان.

الإيمان بالقول فقط لا ينفع:

أمّا أن تقول: “آمنت” قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاس مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فبمجرد القول، فلسانك مسخّر لتقول ما تشاء، لكن ماذا أجابك الله عزَّ وجلَّ في ادّعائك الإيمان؟ بإمكانك أن تقول: “آمنت”، لكن الله عزَّ وجلَّ ماذا قال عن إيمانك؟ ﴿وَمِنَ النَّاس مَنْ يَقُولُ آمَنَّا [البقرة: 8] فلا يجيبنا على نطق ألسنتنا، ولكن يجيبنا على ما في قلوبنا المتمثّل والمنعكس في أعمالنا وأخلاقنا وسلوكنا، عند مطامعنا وأهوائنا وشهواتنا، وعند مخافتنا على مصالحنا ومنافعنا ﴿الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة: 41] أجابهم الله عزَّ وجلَّ قائلًا: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8].

المحبة تدعو للاتّباع:

أجاب الله عزَّ وجلَّ عن مدّعي حبّ رسول الله ﷺ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فلإثبات المحبّة ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] فهل ندّعي المحبّة فندلّل عليها باتّباع رسول الله ﷺ؟ وهل تستطيع أن تكون نجّارًا بلا معلِّم نجارة يعلِّمك ويدرِّبك، وتكون في صحبته ومعيّته من شروق الشَّمس إلى غروبها؟ فكيف تصير نجّارًا بلا صحبة ولا مرافقة ولا طاعة ولا مشاركة في العمل؟ وكيف تكون حدادًا أو طبيبًا أو مهندسًا أو متسولًا؟

طرفة جحا وزواجه من ابنة المتسوّل:

يروى عن جحا أنّه رأى فتاة جميلة فَعَلِقت بها نفسه وقلبه، فسأل عنها فإذ بأبيها شحاد [متسوّل]، لكنّ الحبّ والعشق يغلب السّلاطين والملوك، فما علاقته بتسوّل أبيها؟ فخطبها فقال له: “لا أزوّجك إياها!” فقال له: “لماذا؟” فقال: “لعلك تعيّرها يومًا من الأيام بأبيها، إلّا إذا تسوّلت أربعين يومًا فتصير متسولًا، وعند ذلك لا تستطيع أن تعيّرها بأبيها”، فقال له: “موافق”، قال له: “يجب أن تتسوّل معي”، فذهب معه حتَّى يتعلم الصّنعة من أهلها ومن معلّمها، فبعد أربعين يومًا قال له: نريد أن نفحصك، والفحص في الحمَّام، ففي اليوم الفلاني نستحم معًا، وفي اليوم الموعود، قال الصّهر المكرّم لعمّه: “لقد نسيت أن أحضر معي صابونًا، فهل من الممكن أن تشحدني [تعطيني] صابونتك؟” فقال له: “تمام، لقد نجحت في الفحص!”.

فالتّسوّل يحتاج إلى معلّم، فمن أستاذك في الإسلام؟ ومن الذي درَّبك بعمله وبحكمته وبعلوم القرآن علمًا وعملًا وسلوكًا؟ ومن زكَّى نفسك؟

“مسلم” لأنّ اسمك مُحمَّد بن أحمد بن محمود، ولم يكن لك معلم ولا مزكّ ولا مربّ، ولا من يعلِّمك علوم القرآن، ولا من يروِّضك على أخلاق القرآن، فهل تكون الرّياضة البدنيّة بالمحاضرات؟ وهل تتعلّم الطّبّ والجراحة بالمحاضرات والكلام فقط؟

فمن أستاذك ومن مربّيك؟ فأنت بحاجة إلى المربّي أكثر من حاجتك إلى الطّعام والشّراب؛ لتلقى الله عزَّ وجلَّ بإسلام القلب وإسلام العمل وإسلام الأخلاق، ولتنجح في حياتك؛ لتكون مزوّدًا بثقافة القرآن وحكمة القرآن.

الحكمة هي العقل في قمته:

الحكمة: هي العقل في قمته، وهي مراعاة الأسباب والمسبّبات بكلّ دقائقها وصغيرها وكبيرها.. هكذا كان الأمّيّون من الأعراب والبدو لمّا آمنوا بقلوبهم نورًا وإيمانًا، وحبًّا لله عزَّ وجلَّ وخشية، وفي عقولهم حكمةً، فاستعملوا الطّاقات العقليّة بكلّ الأبعاد، بقيادة وتدريب وتربية وتزكية رسول الله ﷺ فصاروا كما وصفهم: ((علماء، حكماء، فقهاء)) 1 في كلّ شيء من أمور الدّنيا ومن أمور الآخرة، فتحوّلوا بالإسلام من فقراء إلى أغنياء، حتَّى صار المنادي يُنادي في زمن عمر بن عبد العزيز: “هل من أعزب فنزوجه؟” فالدّولة تكفلت بالضّمان الزّواجي، “وهل من فقير فنعطيه؟ وهل مَن لا بيت له فنقدّم له بيتًا؟” فهذا ما صار في التّاريخ من آدم إلى أن تقوم السّاعة، هذا هو الإسلام! قال تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 8] فجعل الغنى أحد أركان الإسلام، فالإسلام يقوم على خمسة أركان، ركنان منها شرطهما الغنى، كن غنيًّا لتكون مزكّيًا، وكن غنيًّا لتكون حاجًّا.

الإيمان يمنع الذلة والمسكنة:

فدينٌ يجعل الغنى والثّروة من أركان الإسلام! ويجعل علامة الكفر وغضب الله الاستعمار والفقر، فقال عن اليهود في زمن رسول الله ﷺ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ما الذّلّة؟ هي تسلّط العدو والاستعمار ﴿وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة: 61] يعني الفقر.

قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 6-7] فهل المسلمون الآن في عزّ أم في ذلّ؟ ها قد مرّت خمسون سنة على فلسطين: يُذبَّحون، ويُقتَّلون، ويُيَتَّم الأبناء، وتُرمَّل النساء، وتثكل الأمهات، ويُذبَّح المسلمون وهم سجود في بيت الله، أي حالة هي حالة المسلمين من الفقر والجوع والتّقاتل كما كانوا يتقاتلون في الجاهلية؟ جاهلية أفظع من جاهلية ما قبل الإسلام، فلمَ؟ كما قال الشّاعر

مُحمَّد هل لهذا جئتَ تسعى؟
وهل أتباعُك هملٌ مُشاعُ؟
أإسلامٌ وتقتلُهم يهودٌ؟ وآسادٌ وتأكلُهم ضِباعُ؟
أيشغلُهم عن الجُلّى نزاعٌ؟ وهذا نزعُ موتٍ لا نزاعُ
شرعتَ لهم سبيل المجد لكن أضاعوا شرعَك السامي فضاعوا

“الجُلّى” الأمر الجليل الخطير.

صار العرب الآن أكثر من عشرين دولة، وصارت اليمن يمنين، والشّام أربع دول: فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، فهل قسّم الإسلام الشام أربع دول، وأربع جوازات وأربعة حدود؟ بل جعل من حدود الصّين إلى حدود فرنسا كلها شامًا، وكانت عاصمتها دمشق، فهذا الإسلام ألا يجب أن نبحثه؟ وألا يجب أن ندرسه؟ وألا يجب أن نقرأ كتابه ودستوره؟ وألا يجب أن ندرس هذا الإنسان الذي اسمه مُحمَّد صلَّى الله عليه وصلَّت عليه ملائكته وخلقه في الأرض وفي السّماء؟ ففي ثلاث عشرة سنة كان مدرسةً، وفي عشر سنين كان مدرسةً ودولةً وجهادًا ونضالًا ووحدةً.

العزّة بالإسلام:

فنحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام! هل إسلام التمني أو إسلام الألفاظ والألقاب؟ بل إسلام إيمان القلب وإسلام المعلّم المزكّي الحكيم المربّي، فمن أستاذك في إسلامك؟ وإذا كنت حدّادًا فمن أستاذك؟ تقول: “فلان”، إن كنت طبيبًا فمن أساتذتك؟ تعد عشرات الأساتذة، فمن أستاذك في الإسلام الذي علّمك علوم القرآن؟ إن كنت تقرأ ألفاظ القرآن فالشّريط يقرؤها، والورق يحفظها، لكن المقصود بالإيمان بالقرآن وحفظه أن يظهر فيك أعمالًا وفهمًا وخلُقًا وحكمةً وإنتاجًا ونصرًا في الحروب وعزةً في الحياة، وتقدُّمًا بين الأمم، حتَّى صاروا ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] بشهادة الله عزَّ وجلَّ، فهل يشهد الله عزَّ وجلَّ شهادة زور؟ فلذلك لنرجع إلى القرآن.

يجب على الإنسان التقديم لنفسه:

﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فقدِّم نفسك أيّها الإنسان، مهما كنت شيخًا أو مفتيًا أو عالِمًا أو ملكًا أو رئيسًا أو وزيرًا أو غنيًّا عندك مصانع ومعامل ومزارع وتجارة وغير ذلك، ففي لحظة واحدة يقف القلب وتقف الرّئتان فتصبح جثة هامدة، فخير ما يُصنع لك أن تُوارى في التّراب حتَّى لا تؤذي النَّاس بإنتانك، فمثِّل نفسك وقد نُفخ في الصّور للبعث والحضور في محكمة الله عزَّ وجلَّ، والشّاهد عليك أعمالك، والقاضي يقول لك في القضاء: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14].

وأنت تظلم الضّعيف ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء: 14] وأنت تسرق بشتى أنواع السّرقة.. ينادي المنادي: “حي على الصَّلاة”، فلا تلبي نداء الله عزَّ وجلَّ، “حي على الزّكاة”، فلا تؤدي الحقّ المعلوم للسّائل والمحروم، وقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83] وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32] وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الأنعام: 151] وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام: 152] وقال أيضًا: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أحد الوالدين إذا صار كبيرًا ﴿أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ لأنّه مع كبر السّن يضعف التّحمّل فيحصل الإيذاء أكثر ﴿وَلَا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء: 23] قيل: “لو علم الله عزَّ وجلَّ أنه يوجد كلمة في الإيذاء أصغر من أف لذكرها”.

سوء العقوق:

قال تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ من قبري وأُبعَث إلى الحساب؟ هكذا أنتما تدّعيان ﴿وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أين الذين ماتوا قبلنا؟ لماذا لم يخرجوا؟ ﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ آمن بنفخ الصّور، وآمن بالحاقة، وآمن بحساب الله عزَّ وجلَّ ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ هذا كلّه خرافات، هذا شيء رجعي ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [الأحقاف: 17-18] قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس أَجْمَعِينَ [هود: 119] ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ فلست أنت وحيدًا، بل قبلك أمم بالألوف ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ما الذي حق؟ ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف: 18].

طرفة عن الخسارة الحقيقية:

ستخسر بالموت كلّ شيء، فإذا خسرت الجنّة في الآخرة فيكون مثلك مثل ذلك المغرور، أتى من أوروبا وقد نال شهادة دكتوراه، وبينما هو راكب في القارب من السّفينة إلى الشّاطئ، فسألَ هذا المثقفُ قائدَ القارب: “هل درست الكيمياء؟” فهذا البائس لو كان قد درس الكيمياء هل كان أصبح قائد قارب؟ فقال له: “لا”، “وهل درست الفيزياء، والإنكليزية والفرنسية؟” وهو يجيبه: “لا”، فقال له: “راحت حياتك سدى، فالحيوان أحسن منك”، فأرسل إليه الله عزَّ وجلَّ من يعطيه درسًا لكنّه درس قاسٍ، وهو الهواء، فصار القارب يرقص رقصًا إيقاعيًّا، وبعد ذلك ثارت العاصفة فقلبت القارب، فإذا بالذي يعرف الفيزياء والكيمياء والفرنسية والإيطالية لا يعرف السباحة! فأخذ يصرخ ويستغيث، فقال له قائد القارب: “هل تعرف أن تسبح؟” فقال له: “لا”، فقال له: “راحت حياتك سدى!”.

عدم الغرور بالحياة الدنيا:

فلا تغترّوا ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [لقمان: 33] فلا الشّباب يدوم، ولا الغنى يدوم، ولا السّلطان ولا الجاه يدومان، فعندما تقع بين يدي ملك الموت فأرنا شهاداتك وقوتك وفهمك وذكاءك! قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّه [الحشر: 18] سواء في خلواتك أو في شبابك أو في غضبك أو في سلطانك أو في غناك أو في ثروتك، تنسى أحكام الله أو فرائض الله أو دين الله عزَّ وجلَّ.

فدنياك حلم- منام- بالأمس كنا أطفالًا نلعب في الحارات، أليس كذلك؟ ألم تكونوا تلعبون؟ والآن أصبحتم شبابًا، ثمّ تزوجنا، ثم أتانا أولاد، ثمّ بعد ذلك: “مات، الله يرحمه!” فهل بدعائك “الله يرحمه” سيرحمه الله؟ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ كلّ من يدخل في رحمة الله ستظله، لكن من يفرّ من رحمة الله فإنّ رحمة الله تفرّ منه ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لمن سأسجلها؟ ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ما التّقوى؟ هي أداء فرائض الله، والتّحرُّج عن محارم الله، وفعل محبوبات الله، والبعد عن مكروهات الله عزَّ وجلَّ.. والرّحمة سأكتبها لمن؟ ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 156].

العبرة بالإيمان الحقيقي:

فهل أنت آمنت بالحاقّة مثل إيمانك بالأفعى؟ ما مقتضى الإيمان بالأفعى؟ هل أن تجعلها مسبحة، أم تمسكها من ذيلها أم من رأسها أم تجعلها ربطة عنق وتعلقها برقبتك؟

اصطلاح الصّور والبوق الخاص بالجيش، فالجندي يستجيب لصوته، أمّا البوق الخاص بالآخرة: أن قوموا إلى الحساب، فهناك لا يوجد محامٍ، وهناك لا يوجد استئناف أو تمييز، ولا يوجد دفع نقود، ولا جاه، قال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 28]، وقال أيضًا: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة: 48].

فيأمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نتقي هذا اليوم ونحذره، وأن ننتبه وأن نحضّر أنفسنا له، فهل علِمت هذه الآية؟ وهذه آية من آياته.

قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا احذروا ذلك اليوم، واستعدوا له ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: 48] على الله عزَّ وجلَّ، فإذا حكمك فهل تستطيع أن تحضر واحدًا أقوى من الله يخلِّصك من حكمه؟

وقال تعالى: ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [لقمان: 33] فلا تظنّوا أنّ القصة مجرد لعبة أو مجرد أعمال أولاد.

فعندما تسمع هذا التّهديد، فلو أنّ شرطيًّا هدّدك وقال لك: “أنت تمشي على اليسار، فإذا أكملت سأكتب لك مخالفة”، تهديد الشرطي ماذا يؤثّر فيك؟ فبسرعة تمشي على اليمين، إمّا بصافرة أو بمجرد أن تراه، فإذا كان الله عزَّ وجلَّ معك في سرّك وجهرك، وفي خلواتك وجلواتك وفي حكمك وسلطانك، وفي قوتك وضعفك، فهل آمنت بالحاقة؟ وهل آمنت بالواقعة؟ وهل آمنت بيوم القيامة؟ فهل دليل إيمانك بالسّم أن تشربه أو أن تجتنبه؟ وهل دليل إيمانك بالذّهب أن تقبله أو أن ترفضه؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الإيمان.

كيف يتحقّق الإيمان؟:

حتَّى يتحقّق الإيمان، كان القرآن يدعو إلى الالتحاق بمدرسة رسول الله ﷺ في المدينة، ما يسمى بالهجرة، فالهجرة تعني الالتحاق إلى المدرسة؛ لتتعلم الكتاب: علوم القرآن، وتتعلم الحكمة، فيُبعَث عقلك بكلّ طاقاته للعمل في كلّ أمور الحياة، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: 129] تتزكّى نفسك فتنتقل من كاذب إلى صادق، ومن مُراءٍ إلى مخلص، ومن محبّ للدّنيا تعبدها إلى محبّ لله ورسوله ومرضاته، فعن الهجرة قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡض وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ [الأنفال: 72].

في زمن النبي ﷺ كنا نتعلّم بطريق الهجرة؛ بالهجرة إلى رسول الله ﷺ، فبعد النبي ﷺ ممن تتعلّم وإلى من تهاجر؟ فهل لك هجرة؟ هاجر في الأسبوع ساعةً أو ساعتين، فخلال الأسبوع يوجد ما يقارب مئة وسبعين ساعة، ألا تستطيع أن تنفق منها ساعتين أو ثلاث، تنفق كلّ يوم نصف ساعة مع الله ذكرًا بتعليم وتدريب أستاذ الذّكر حتَّى يعلّمك كيف يدخل الإيمان في قلبك؟ وحتَّى لا تكون ممّن قالوا: ﴿آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة: 41] حتَّى إذا نفخ في الصّور تكون على أكمل استعداد وتقول: “يا مرحبًا بلقاء الله عزَّ وجلَّ”.

الاستعداد ليوم القيامة:

فالذي استعد ليوم القيامة لنسمع ماذا يكون حاله ومصيره عند النفخ ببوق يوم القيامة؟ قال: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ ما الصّور؟ يعني البوق، لكنَّ بوق الآخرة غير بوق الدّنيا.

﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ كلّهم يسمعونه ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة: 14] تنفجر الأرض وتتفرق هباءً منثورًا بجبالها وأوديتها وقاراتها.

﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة: 15] قامت القيامة وصارت حاقة وحقيقة، واقعة وواقعيّة، فأين أضحى مالك وجاهك ولقبك “صاحب المعالي” “صاحب الدولة”، “الوزارة”، “الرئاسة”، “شيخ”.. أو غيره؟ فهناك لا يوجد من ذلك شيء، لا يوجد شيء إلّا أعمالك وصحائفك.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا حسن الاستعداد لنفخة الصور.

أهوال القيامة:

قال تعالى: ﴿وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [الحاقة: 16] واهية يعني ضعيفة مرتخية، وقيل: بأنها واهية بمعنى منثقبة منتقبة فيها ثقوب، والآن يتكلمون عن انثقاب طبقة الأوزون ﴿وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ يعني انخرقت وثُقِبت، وقالوا: “بأنّ هذا الثّقب يوازي مساحة أوروبا كلّها، وهو يسبب معظم الأمراض من أشعة الشَّمس التي يكون الأوزون كالدّرع الواقي منها، فلا يوصل من أشعة الشَّمس إلّا ما يحقّق الحياة، ويرد ما فيه هلاك الإنسان وتلفه”، فإذا انخرق هذا الدّرع صارت طبقة الأوزون واهية.

﴿وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا [الحاقة: 16-17] هيئة المحاكمة، ألّا يوجد أعضاء فيها؟ فالله عزَّ وجلَّ يمثّل لنا المحكمة بحسب تصورنا لمحاكم الدنيا، على حسب عقولنا وأفهامنا، وإلّا فالأمر بحقيقته وعظمته وجلاله لا يعلمه إلّا الله عزَّ وجلَّ.

﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ألا تحتاج المحكمة إلى شرطة وغيرها؟ كذلك الملائكة موجودة في عرَصات يوم القيامة.

﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: 17] هذا كله تمثيل ورمز، وإلّا فالحقيقة لا يعلمها إلا الله عزَّ وجلَّ.

ولكن كما تخاطب الطفل بلغة الأطفال، فسيِّدنا الحسن أو الحسين رضي الله عنهما وهما طفلان أحدهما أخذ تمرةً رآها في المسجد، فخاف النّبي ﷺ أن تكون من تمر الصّدقة، لم يقل له: “هذا حرام عليك”، إنّما خاطبه بلغة الأطفال فقال له: ((كخ كخ!)) 2 .

محكمة الله عزَّ وجلَّ:

فكذلك يخاطبنا الله عزَّ وجلَّ عن أهوال وعظمة وجلال وهيبة المحكمة الإلهيّة باللّغة التي تدركها عقولنا، ومعنى ذلك أنّ المحكمة تهيّأت وأتى القاضي ربّ العالمين، وأتت الملائكة بصحفها.

والأنبياء شهود في المحكمة الإلهية، كما قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] فهل بلّغتهم يا مُحمَّد رسالتي وكتابي وقرآني وأحكامي والحلال والحرام؟ نعم، فهاتوا صحائفهم: فلم تؤدّ فرائضي، وارتكبت محارمي، وأقدمت على غضبي، وفررت من مرضاتي، فماذا يكون جوابك في ذلك الوقت؟ إن كنت وزيرًا أو غنيًا أو حاكمًا أو ذكيًا أو أستاذ جامعة، فهذا كلّه مثل حكاية البحَّار قائد القارب والمغرور بشهادته، فقال له: “لا تعرف الكيمياء ولا الفيزياء، لقد ذهبت حياتك سدى”، فعندما انكفأ القارب وبدأ يستغيث من الغرق قال له: “هل تعرف السباحة؟

غدًا يقول له: “هل عندك إيمانٌ؟” فيقول له: “لا، فيقول له: “إذًا ذهبت حياتك سدى”.

فإيّاكم أن تكونوا ذلك المغرور، قال تعالى: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [لقمان: 33]

حافظْ على صلواتِكَ الخمسِ كم مصبحٍ وعساهُ لا يمسي
واستقبلِ اليومَ الجديدَ بتوبةٍ تمحو ذنوبَ صبيحةِ الأمسِ
فليعملَنَّ بجسمِكَ الغضِّ البِلى فِعْلَ الظلامِ بصورةِ الشَّمس

البلى: الموت.

فإذا جاء الظّلام أين نور الشَّمس؟ وإذا جاء ظلام الموت فأين نور الحياة؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل حياتنا ما بعد الموت خيرًا من حياتنا قبل الموت، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ وبعد ذلك فقط قالوا أم ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30].

إذا كنت في سكرات الموت ورأيت ملائكة الله بأجمل الصّور وأحبّ الأشكال.. فبعض إخوانكم لمَّا حضره الموت صار يقول: “أهلًا وسهلًا”.. جاءه ملك الموت ولكنّه ظهر له بصورة أحبّ النَّاس إليه، ظهر له بصورة شيخه، فقال: “يا مرحبًا بشيخي، أهلًا وسهلًا بشيخي، أهلًا أهلًا”، وإذ بسيِّدنا ملك الموت جاءه بصورة شيخه ليأخذه، فهل هناك أحلى منها؟ وهناك ناس يأتيهم بصور أحسن وأحسن وأحسن.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل خير أيامنا يوم لقائه.

العمل ليوم العرض:

قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ من أعمالكم التي كنتم تخفونها عن النَّاس، وتستحيون منها وتخافون أن يتكلّم النَّاس عليكم ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18] فأعمالكم كلّها أمام الله عزَّ وجلَّ، فالتي كنت تستحيي أن تقوم به أمام الطفل أو أمام الخادمة أو أمام النَّاس، وكنت تقول: “سيتكلّم النَّاس علينا، وسيحتقرنا النَّاس”.. فكيف سيكون حياؤك غدًا أمام الله عزَّ وجلَّ؟ وكيف سيكون حالك، وكيف سيكون موقفك، وكيف سيكون ندمك؟

قال تعالى: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ سد ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99-100]، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفّقنا للاستعداد.

وهل استعدادك للآخرة في الإسلام يضيّع حظّك من الدنيا؟ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77].

حسنًا.. عُقِدت المحكمة، فما هي- يا ربّ- صفة المحكمة حتَّى نستعد لها؟ قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الحاقة: 19] الذي أخذ كتاب الله باليد اليمنى، قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم: 12] يقول لك: “الأمر الفلاني ضعه لي في يدك اليمنى؛ لأنّ اليد اليمنى أقوى من اليد اليسرى”، فلكي تكون ممن يأخذ كتابه بيمينه في الآخرة عليك أن تأخذ القرآن في الدّنيا بيدك اليمنى: علمًا وعملًا وتطبيقًا وخُلقًا، وأداءً لفرائض الله، واجتنابًا لمحارم الله عزَّ وجلَّ، وتعليمًا لكلّ ما علِمته لمن لا يعْلَمه، فيجب عليك أن تعلِّم غيرك؛ لأنك إذا كنت تؤدي الواجب ورأيت غيرك لا يؤدّيه فيجب أن تأمره بأداء الواجب، هذا من أركان الإسلام الثّمانية.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أركان الإسلام:

ورد في بعض الأحاديث أن النبي ﷺ قال: ((أركان الإسلام ثمانية)) فالثّلاثة الزّائدة على الخمسة: ((الأمر بالمعروف)) فإذا رأيت أحدًا تارك صلاة، فعليك أن تجعله يصلي بالأسلوب الحسن الحكيم، وبالتّرغيب، وبكل الوسائل المتاحة، سواء كان ابنك أو أبوك أو صديقك أو جارك أو صاحبك.

((والنهي عن المنكر)) 3 ، يقول أحدهم: “أخي فخار يكسّر بعضه بعضًا”، [مَثَل عامّي بمعنى أنني لا علاقة لي بهم، ولو جرى ما جرى!] وهذا عوضًا عن قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [التوبة: 71] هذا قرآن الله عزَّ وجلَّ؛ بينما قرآنك: “فخار يكسر بعضه بعضًا”، عوضًا عن ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال: 1] إن قلت له: “قم لنصلح بين اثنين، أو بين أخوين، أو بين جارين، أو بين شريكين”، فيقول لك: “أَهْل حَمَدَ تَنْدُب حَمَدًا” [مثل عامي بمعنى لا يهمني الأمر وليس لي علاقة به، و”حَمَد” اسم شخص: اترك أهل حمد يبكون على ولدهم].

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فهل أنت مؤمن بالقرآن؟ فأنت أول الكافرين بالقرآن! وحجّة الله عزَّ وجلَّ عليك عندما تقرؤه؛ لأنّك عندما تقرأ بلاغ المحكمة أنّه يجب عليك أن تحضر غدًا، وإذا لم تحضر فعليك كذا وكذا، إذًا لماذا لم تحضر؟ فأنت قرأت وعلمت وعرفت وخالفت! فإذًا جزاؤك عوضًا عن أن تُحكَم خمس سنوات سنحكم عليك بعشر سنوات!

دعونا نتبْ إلى الله عزَّ وجلَّ من إسلامنا الكذّابي إلى إسلامنا العلمي العملي بطريق المعلّم، فأنت تحتاج إلى معلّم، فتعلمت النّجارة بمعلّم، وتعلّمت التّجارة بمعلّم، وتعلمت الصناعة بمعلّم، والطّبّ بمعلّم؛ والدين الإسلامي الذي يؤمِّن لك الدّنيا والآخرة ألا تحتاج فيه إلى معلّم؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحيي قلوبنا من موتها ويوقظها من غفلتها.

التّعليم في الإسلام فرض:

﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ إذا أخذت القرآن بيدك اليمنى في الدّنيا: علمًا فقط، وحفظًا فقط، وعملًا فقط، بل وتعليمًا، فيجب عليك أن تعلِّم، فقد قال النبي ﷺ: ((ما بال أقوام لا يعلِّمون جيرانهم ولا يفقِّهونهم ولا يفطِّنونهم)). إذا كان غبيًّا في عمله الدّنيوي فعليك أن تعلِّمه: “اعمل هكذا من أجل أن تربح ولا تخسر” ((وما بال أقوام لا يتعلمون ولا يتفقهون ولا يتفطنون؟)) إذا لم يفعلوا ذلك ((لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا)) 4 .

التّعليم في الإسلام إجباري: التّعليم والتربية، والضّمان العلمي والتعليمي والتربوي والأخلاقي، وكذلك ضمان اجتماعي للعلم وللتّعليم وللأخلاق وللسّلوك؛ فهل توجد أمّة ودولةٌ هذه قوانينها؟ يعلّمنا إيّاها رسول الله ﷺ، فهل نحن صادقون في أنّ مُحمَّدًا رسول الله؟ فالذي يدلّ على الصّدق أن تستجيب لندائه ودعوته ورسالته.

وأمّا أن يقولوا بأفواههم ما ليس في قلوبهم فهذا نفاق في نفاق في نفاق، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 145-146] وقال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُم في تفريطهم الماضي ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 99] لمن؟ لمن تابوا وأصلحوا وبيّنوا، يقول لك: “الله غفور رحيم”، ويعمل المعاصي، مثل الذي يقول: إنّ الدولة عندها مليارات وستعطينا مليارًا منها.. فليقبض إذًا!

بهجة من أوتي كتابه بيمينه:

قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فمن الذي يؤتى في الآخرة كتابه بيمينه؟ الذي أخذ القرآن في الدّنيا لينفِّذه ويطبِّقه بقوّة وصدق وإخلاص لا تأخذه في الله لومة لائم، فسيأخذ كتاب دخول الجنّة أيضًا بيده اليمنى، فعندما يخرج الواحد من الفحص يسأله أهله: “قل لنا ما هي علاماتك؟” فيقول: “عشرة من عشرة، أو مئة من مئة” ﴿فَيَقُولُ هَاؤُمُ ما معنى ﴿هَاؤُمُ؟ أي خذوا ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة: 19] اقرؤوا ماذا فيه، لن أقول لكم، خذوه فاقرؤوا بأنفسكم لتعلموا ما به وتتأكدوا وتطمئنوا عليَّ.

﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا ماذا يعني ﴿هَاؤُمُ؟ خذوا، يعني فاقرؤوا كتابيه، فأنا صرت في الجنة، لماذا؟ ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 20] ﴿ظَنَنْتُ بمعنى تيقّنت بلا أي شك ولا ريب، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [البقرة: 46] ماذا يعني ﴿يَظُنُّونَ؟ هل هناك شك؟ يوقنون، فهنا الظّنّ بمعنى اليقين، قال تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ تيقنت ﴿أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فكنت أحاسب نفسي في الدّنيا، لآخذ كتابي يوم القيامة بيميني في الدّار الآخرة ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ. ولذلك كان سيِّدنا عمر رضي الله عنه يقول: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم”.

﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة: 21] كم من أناس كانوا في عزّ فانقلبوا إلى ذلّ، وكانوا في غنى فصاروا إلى فقر، وفي قوة فصاروا إلى ضعف وامتهان، أمّا هنا ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ خالدة أبديّة؛ شباب بلا هرم، وصحة بلا سقم، وحياة بلا موت. اللهم اجعلنا منهم قولًا وعملًا ودعاءً وسلوكًا وظاهرًا وباطنًا.

﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الحاقة: 22] تجري من تحتها الأنهار ﴿قُطُوفُهَا [الحاقة: 23] ثمار أشجارها لا تحتاج إلى سلالم بأن يصعد على السّلم فيقع وتنكسر رقبته.

طرفة عن المكذّب بالدّين:

يقال: إنّه كان هناك اثنان مسافران مسلم ويهودي، فأثناء الطّريق شاهدا شجرة تين فصعد عليها اليهودي، وكان المسلم يقول له: “يجب أن تسلم، غدًا يوجد قيامة وأنكر ونكير وغير ذلك”، وبعض طوائف اليهود ينكرون القيامة، ويبدو أنّ هذا كان منهم، فكان يقول له: “هذا كذب! لا يوجد قيامة ولا يوجد أنكر ونكير ولا يوجد حساب قبر ولا غير ذلك”، قال له: “حسنًا، غدًا سترى”، فصعد اليهودي على شجرة التين، فكان الغصن الذي صعد عليه قد أصابه السوس وضعيفًا فتضعضع وانكسر، فوقع اليهودي على رأسه فاندقّ عنقه ومات.

ففي تلك الليلة شاهده المسلم في المنام، فقال له: “الآن أصبحت في دار الحق والحقيقة فقلِ لي ماذا رأيت، أليس هناك أنكر ونكير؟ أليس هناك سؤال في القبر؟ ” قال له: “كله كذب! أنا لم أرَ أنكر ونكير ولا حساب القبر ولا غير ذلك”، قال له: “إذًا ماذا رأيت؟” فقال له: “من فوق شجرة التين وانكسر رأسي على الأرض إلى جهنم مباشرةً!” من غير وقفة ولا جمرك ولا تفتيش!

الحرص على طاعة الله عزَّ وجلَّ (قصة وفاة أبي غُنَيْم):

فانتبهوا واحذروا على أنفسكم، إنها بلحظة واحدة، كان أخ من إخوانكم من أولياء الله، [واسمه أبو غنيم] روى لي ابنه: فبعد الدّرس وهما في السّيارة وقف عند محمصة وقال لابنه: انزل اشترِ لنا موالح، قال لي: رجعت بعد أن اشتريت الموالح وإذا هو قد سلم الروح إلى بارئها، متوفى.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الاستعداد للقائه.

﴿قُطُوفُهَا فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلكم ممن يقطفون من شجر الجنّة من غير سلالم ومن غير أن تقعوا هذه الوقعة.

﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا [الحاقة: 23-24] يا الله! هل يا تُرى سنسمعها؟ فهذه تحتاج إلى أعمال، وتحتاج إلى تشمير، فإذا كنا نبذل للدنيا خمس ساعات فواللهِ يجب أن نبذل للآخرة خمسين، فنحن نبذل خمسين للدنيا وساعة للآخرة، فيا حسرة علينا! ونريد جنّات تجري من تحتها الأنهار، ((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي)) 5 ، فالنبي ﷺ مع كلّ ما أعطاه الله عزَّ وجلَّ يقول: ((إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مئة مرة)) 6 أستغفر الله وأتوب إليه.

موقف من أوتي كتابه بشماله:

قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أو من وراء ظهره، كان الدّين وراء ظهره كليًّا، أو إذا عمل عملًا كان يعمله باليد اليسرى بشكل ضعيف وليس بالشّكل المطلوب ﴿فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة: 25-26] يا ليّتهم لم يحضروا لي دفتر الحساب، ولا فاتورة الحساب.

طرفة عن الاحتيال:

يروى أنّه كان هناك لص في سوق الحميدية، ويبدو أن سوقه كان كاسدًا في ذلك اليوم، فرأى بدويًّا يلبس عباءة مقصَّبة، فأقبل عليه وقال له: “مرحبًا بِحَمَد”، [حَمَد: من الأسماء الشائعة عند البدو في سوريا] فقال له: “أخي أنا لست حمد”، قال له: “كيف زوجة حمد؟” قال له: “يا أخي أنا لست حمد، وزوجتي ليست زوجة حمد”، فقال له: “كيف أم حمد وأبو حمد وأخو حمد؟”، فقال له اللص: “أنت مدعو عندي على الفطور”، فأخذه إلى مطعم الأمراء.

فلمّا رأى مطعم الأمراء، قال له: “كيف حمد؟” قال له: “بخير”، وقال له: “وزوجة حمد؟” فأجابه: “تسلّم عليك”، وسأله عن أمّ حمد؟ فقال له: “تدعو لك”.

أحضروا دجاجًا، وأحضروا بقلاوة، وغيرها من الطعام الفاخر، حتَّى ملأ ذلك اللّص بطنه، فقال له: “ألا تشرب النرجيلة؟” فذهب ليحضر له النرجيلة، فسأله المحاسب: “إلى أين” فقال له اللص: “إن الأمير يطلب أركيلة، وهذا الأمير رجل غني فخذوا منه الحساب”، وهرب! وكان الوقت وقت الغداء والمكان مزدحمًا، وذاك جالس ينتظر النرجيلة.. نعوذ بالله من أن نكون مثله.

مضت بضعة دقائق والمطعم مزدحم، فالنادل قال له: “لماذا لا تقوم؟” قال له: “والنرجيلة؟” فقال له: “أي نرجيلة؟” فجاء له المحاسب فقال له: “حسابك ألفا ليرة!” وليس معه ليرة واحدة من الألفين! فقال له: “يا أخي أنا ضيف”، فجاء المحاسب فأخذ منه العباءة المزركشة بالقصب ودفعه برجله حتَّى جعله في وسط الشارع، فصار يقول: “يا أخي أنا أقول له لست حمد وهو يقول لي: بل أنت حمد! وأنا أقول له: يا أخي واللهِ لست حمد! وهو يقول: لا بل أنت حمد”.

فأنا أخاف أن تقول غدًا يوم القيامة “أنا مسلم” فتقول لك الملائكة: “لست مسلمًا”، وتقول: “إنك مؤمن” وتقول لك: “لست مؤمنًا”.

﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [لقمان: 33] اعملوا لدنياكم فهذا مطلوب، ولكن لا تنسوا آخرتكم، فيجب أن تُوَصَّوا ألّا تنسوا دنياكم، فالأمر يحتاج إلى ذكر، ويحتاج إلى حياة القلب بالله عزَّ وجلَّ حتَّى تكون البطارية دائمًا مشحونة والسّيّارة دائمًا جاهزة للعمل. فقدِّر نفسك في ذلك الوقت:
هل أنت من ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ أم من نوع ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة: 25] فأيّهما تختارون؟ تختارون ﴿هَاؤُمُ، حسنًا هل تحصل هذه بالتمني؟ فهل الدكتوراه تحصل بالتمني؟ وهل الوزارة تحصل بالتمني؟ وهل الغنى يحصل بالتمني؟ ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة: 26] يا ليتهم لم يحضروا لي فاتورة الحساب مثل أخينا حمد.

خسارة الكافر:

﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ موتًا بلا بعث ولا حياة بعد الموت ولا نشور ولا قيامة، فهل يحدث هذا؟ فهل قانون الله عزَّ وجلَّ يتغيّر؟ ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة: 27-28] كنت مغرورًا بالمال وبالعمل وبالركض في الليل والنهار حتَّى منتصف الليل بالدّنيا، وأين حظّك من الآخرة؟ فحاسب نفسك وانظر عملك، فكلمة: “الله غفور رحيم” تقولها؛ هذا تمنٍّي، فأنت تحكم على الله عزَّ وجلَّ، والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ هل تؤمن بكلام الله عزَّ وجلَّ في هذه الآيات؟ ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] يذهب إلى أهل الهداية ليهدوه إلى صراط الله المستقيم.

﴿يَالَيْتَهَا كَانَتِ فما أسوأ الحال وما أعظم الخسران بأن تقول في ذلك الوقت: ﴿يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة: 25-27] وهناك فرق بين ذلك وبين أن تقول: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا هل يحدث ذلك بالتّمنّي؟ ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 19-24] فهل ترغبون أن تكونوا من هذا الحزب؟ وهذا يكون بالعمل طبعًا والتصميم والإرادة.. ومن كان مقصرًا في الماضي يمكنه أن يلحق ليكون منهم، لكن يجب أن يصمم من الآن ويعمل للمستقبل، ((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل)) 7 .. وهل ترغبون أن تكونوا من حزب: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ؟ من يتمنى ذلك؟ لا نتمنى، الآن بالكلام والكلام سهل، وغداً الحقيقة واقعة.

تلقي الزبانية للكافر:

﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 29] كان وزيرًا أو أميرًا أو ملكًا أو رئيسًا أو شيخًا، لا يوجد هناك غير العمل والحساب ﴿خُذُوهُ حكمت عليك المحكمة بالسّجن المؤبّد ﴿خُذُوهُ والزبانية موجودون مع القيود ﴿فَغُلُّوهُ [الحاقة: 30] لكن القيود في الآخرة ليست في الأيدي إنّما في الأعناق، فالغل في الأعناق، ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة: 30-31] اغمسوه غمسًا في نار جهنّم.. هذا كلام الله عزَّ وجلَّ وليس كلامي، ولا حديثًا ضعيفًا، ولا حديثًا فيه قيل وقال، كلام الله عزَّ وجلَّ.

أمؤمنون أنتم؟ أتريدون أن تأخذوا القرآن باليمين أم بالشّمال؟ هنا في الجامع تقولون: نعم، لكن خارج الجامع كيف؟ وبالسّوق عندما يصير هناك مربح، هل تفكر بالحلال والحرام؟ يقول: “يا شيخ، الله غفور رحيم!” هل فكرت بالملائكة الذين على يمينك وشمالك؟ ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] أتؤمن بذلك؟ فلا تغترَّ بحكمك أو سلطانك أو مالك أو جاهك، وأنّ النَّاس مغشوشون بك، فغدًا ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق: 9]، فالسّرائر: هي الدّخائل تصبح مكشوفة للنّاس ولله عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [الطارق: 10].

قال تعالى: ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ اشووه شيًّا ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا طولها ﴿سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 31-32] كم طول سيخ اللّحم الذي يستعملونه للشيِّ؟ أربعون سنتيمترًا، لكن كم طول السّيخ الذي يستعملونه للذين يأخذون الكتاب بالشّمال؟ سبعون ذراعًا بذراع الملَك وليس بذراعنا، ما ذنبه؟ عليه هذه الأغلال وضرب الملائكة فقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة: 33] فلو آمن بالله لآمن بكتابه وآمن بشريعته، وطبق أوامره، واجتنب محارمه، ولما أصابه ما أصابه.

﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة: 34] جاء الإسلام لمكافحة الفقر، فلا يوجد في المجتمع الإسلامي فقير ومسكين، إذا كان لا يوجد معك لتعطي فعليك أن تحضّ وترغّب على العطاء، فإن قلت: “أنا فقير”، فهذا لا يعفيك من مكافحة الفقر، فعليك أن تحضّ وترغِّب النَّاس على عمل الخير وعلى العطاء.

﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ [الحاقة: 35] صديق حميم يدافع عنه، يلتمس له أو يتدبّر أمره ﴿وَلَا طَعَامٌ في المطعم ﴿إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] عصارة أهل النَّار من صديدهم وقيحهم ودمائهم وأقذارهم.

﴿لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة: 37] فهل تختارون أن تكونوا من الخاطئين؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا هادين مهديين، اللهم اجعلنا ذاكرين ومذكِّرين.

مُلْحَق

حادثة عدوان الصهاينة على الساجدين:

نشعر بعميق الأسف والأسى على ما سمعنا من الحادثة الفجيعة التي حصلت من عدوان الصهاينة على العرب المؤمنين وهم سجود بين يدي عظَمة الله عزَّ وجلَّ، حيث حصل الاعتداء وبإشراف الجيش الإسرائيلي الموكّل بالأمن وحراسة مسجد خليل الرحمن عليه السَّلام، وتحت سمع وبصر جنود إسرائيل وقعت الجريمة، فقتل عشرات المصلين الآمنين، وذبح المئات من بقية المصلين، وما رأينا من مجلس الأمن الغيرة على حقوق الإنسان التي عملوها في العراق، فقد جمّعوا أساطيل العالم كله؛ لأن العراق اعتدى على الكويت، أليس كذلك؟

واعتداء إسرائيل من خمسين سنة وإلى الآن يوميًّا وساعة فساعة من مجزرة دير ياسين إلى مجزرة صبرا وشاتيلا وإلى أمثالها بالعشرات، وتحت سمع وبصر مجلس الأمن الدولي، لا ندري هل اسمه الحقيقي مجلس الأمن الدولي أم مجلس الأمن الصهيوني الاستعماري؟ لا ندري أي الاسمين أحق بتسمية مجلس الأمن! مجلس الأمن للأقوياء ضد الضعفاء، للمطامع على حساب الضعفاء، فإذا قُتِل شخص يهودي يملؤون الدّنيا ضجيجًا وعجيجًا: الإرهاب، الإرهاب، والمجازر بالمئات والألوف هذا ليس إرهابًا ولا شيئًا يستحق التعليق عليه.

وما هذا إلا بسبب إعراضنا عن الإسلام، لولا الإسلام هل كان يوجد في عصرنا عرب، أو لغة عربية؟ فمدن بلاد الشام كانت تتكلم باليونانية والرومانية، ومصر بالقبطية، وشمال أفريقيا بالبربرية، فمن عرَّبها قحطان أم عدنان أم القرآن والإسلام؟ فهل يجوز أن نهمل القرآن والإسلام فلا ننشِّئ شبابنا ومجتمعنا وشعوبنا على حقيقة الإسلام وجوهر الإسلام؟

فلا نستطيع أن نعمل ونحن في مسجدنا إلا أن نصلي على شهدائنا صلاة الغائب، وندعو الله لهم بالرحمة والغفران، وأن يعيد العرب إلى الإسلام، ومهما نُرِدِ العزة بغيره يذلنا الله.

فلا هيئة الأمم، ولا مجلس الأمن، ولا أمريكا، ولا روسيا، ولا الشيوعية، ولا أي شيء أفادنا ولا يفيدنا إلّا أن نرجع إلى الإسلام، إسلام العلم والعالِم المعلم، إسلام الحكمة وتربية الحكماء الفطناء، إسلام التزكية: التربية الأخلاقية من المهد إلى اللحد: علمًا وتربيةً وحكمةً.. فوزارة التربية مسؤولة، ووزارة الإعلام مسؤولة، والمساجد مسؤولة. فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحقق الآمال.

تفجير كنيسة سيّدة النجاة:

كما أنه أيضًا عزّ علينا ما حصل في لبنان من التفجير الذي حدث في كنيسة سيِّدة النجاة، كذلك أعتقد أنّ هذا عدوان وقد يكون داخليًّا- كما سمعت من بعض إخواننا اللبنانيين- داخلي ولكن بتخطيط صهيوني، ليغطوا جريمتهم في الخليل بحادثة الكنيسة، وسنرى أشياء كثيرة وكثيرة ما دمنا في حالتنا الحاضرة، بعيدين عن الله عزَّ وجلَّ، وبعيدين عن الإسلام، وبعيدين عن وحدتنا.

فقد الوحدة العربية:

أين الوحدة العربية؟ وأين وحدة جيوشها؟ وأين وحدة اقتصادها؟ وأين وحدة حدودها؟ إذا أراد عربي أن ينتقل من دولة عربية إلى أخرى يلقى ما يلقى، ونحن مستقلّون منذ خمسين سنة، فالإسلام في أقل من خمسين سنة لم يوحَّد جزيرة العرب فقط، بل وحد نصف العالم القديم، فالإسلام الآن تُحفَظ ألفاظ القرآن لكن أين المعلّم وأين المدرّب وأين المهندس الذي يأتي بالحديد حجارة وترابًا فيجعلها طائرة بوينغ أو طائرة فانتوم؟ فالجبل كله لا يساوي مئة دولار، لكن القنطار منه يصبح يساوي ملايين الدنانير بالعلم وبالتزكية، فالتزكية للحديد هي تصفيته من التّراب.

وكذلك إذا لم يحصل إسلام علوم القرآن، وإسلام العقل الحكيم، وإسلام التربية والمربي، وإلا نضرب في حديد بارد وتكون كتابتنا وأقوالنا كتابة على الماء.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يردّنا إلى إسلام العلم والعمل والحكمة والأخلاق ردًّا جميلًا.

وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. حديث: (علماء فقهاء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) حلية الأولياء، أبو نعيم، (9/279)، و(10/192)، البداية والنهاية، ابن كثير، (7/371)، عن سويد بن الحارث الأزدي. تخريج زاد المعاد، لشعيب الأرنؤوط: (3/587).
  2. متفق عليه، صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب الجنائز، باب ما يذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (1491)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم، رقم: (1069)، بلفظ: أَنَّ الْحَسَنَ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كِخْ كِخْ، أَلْقِهَا، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَة))، مسند أحمد، رقم: (9308)، (15/177)، سنن الدارمي، رقم: (1682)، (2/1023).
  3. مسند أبو يعلى الموصلي، رقم: (523)، (1/ 400)، عَنْ عَلِيٍّ، بلفظ: ((الإِسْلامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الإِسْلامُ سَهْمٌ، وَالصَّلاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَالْحَجُّ سَهْمٌ، وَالْجِهَادُ سَهْمٌ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ سَهْمٌ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ، وَخَابَ مَنْ لا سَهْمَ لَهُ))، وفي مسند البزار، رقم: (2542)، (7/ 408)، ومسند الطيالسي، رقم: (413)، (1/ 329).
  4. عنْ عَلْقَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: ((خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَثْنَى عَلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يُفَقِّهُونَ جِيرَانَهُمْ، وَلَا يُعَلِّمُونَهُمْ، وَلَا يَعِظُونَهُمْ، وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ، وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ. وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَلَا يَتَفَقَّهُونَ، وَلَا يَتَّعِظُونَ. وَاللَّهُ لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ، وَيُفَقِّهُونَهُمْ وَيَعِظُونَهُمْ، وَيَأْمُرُونَهُمْ، وَيَنْهَوْنَهُمْ، وَلْيَتَعَلَّمَنَّ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَيَتَفَقَّهُونَ، وَيَتَفَطَّنُونَ، أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ))، ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ قَوْمٌ: مَنْ تَرَوْنَهُ عَنَى بِهَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الْأَشْعَرِيِّينَ، هُمْ قَوْمٌ فُقَهَاءُ، وَلَهُمْ جِيرَانٌ جُفَاةٌ مِنْ أَهْلِ الْمِيَاهِ وَالْأَعْرَابِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيِّينَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرْتَ قَوْمًا بِخَيْرٍ، وَذَكَرْتَنَا بِشَرٍّ، فَمَا بَالُنَا؟ فَقَالَ: ((لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ، وَلَيُفَقِّهَنَّهُمْ، وَلَيُفَطِّنَنَّهُمْ، وَلَيَأْمُرَنَّهُمْ، وَلَيَنْهَوْنَهُمْ، وَلَيَتَعَلَّمْنَ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَيَتَفَطَّنُونَ، وَيَتَفَقَّهُونَ، أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا))، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُفَطِّنُ غَيْرَنَا؟ فَأَعَادَ قَوْلَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ: أَنُفَطِّنُ غَيْرَنَا؟ فَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالُوا: أَمْهِلْنَا سَنَةً، فَأَمْهَلَهُمْ سَنَةً لِيُفَقِّهُونَهُمْ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ، وَيُفَطِّنُونَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} [المائدة: 78] الْآيَةَ.
    رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ. ينظر: مجمع الزوائد، ابن حجر الهيثمي، رقم: (748)، (1/164). معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني (1118)، (1/366)، عن أبي ابزى.
  5. ورد الحديث مرفوعًا في أمالي ابن بشران برقم: 47 عن قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، وَلا بِالتَّحَلِّي، لَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْفِعْلُ، الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ بِاللِّسَانِ، وَعِلْمٌ بِالْقَلْبِ، فَعِلْمُ الْقَلْبِ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَعِلْمُ اللِّسَانِ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى بَنِي آدَمَ". وورد مقطوعًا عن قتادة وعن الحسن انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج: 9 ص: 559 ومعالم التنزيل تفسير البغوي عند تفسير سورة فاطر الآية 10. وورد في: حلية الأولياء: أبو نعيم، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: (3/272). وورد عن الحسن رضي الله عنه: ((ليس الإيمان بالتَّحلِّي ولا بالتَّمنِّي، ولكنَّ الإيمان ما وَقَر في القلب وصدَّقه العمل)) شعب الإيمان، البيهقي، رقم: (65)، (1/158).
  6. سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب الاستغفار، رقم: (3815)، (2/ 1254)، مُصنف ابن أبي شيبة، كتاب الدعاء، ما ذكر في الاستغفار، رقم: (30055)، (10/ 297)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وصحيح مسلم، (4/2075) بألفاظ متقاربة.
  7. سبق تخريجه.
WhatsApp