القرآن الكريم والمتلقّي الوثني الأمّي
نحن لا نزال في تفسير ما تبقَّى من سورة الذّاريات، قال الله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذارّيّات:50-51].
أيُّها الإخوة والأخوات: كان العربيّ الوثنيّ الجاهلي الذي لا يَقرأ ولا يَكتُبُ ولم يَدرُس ولا رأى راديو ولا تلفزيون ولا درس جغرافية ولا تاريخًا ولا علومًا، وكان هو وآباؤه وأجداده سُجّداً للأصنام، كان عندما يَسمَعُ القرآن يمتلئ قلبُهُ نوراً وإيماناً ووعياً وانشراحَ صدر واستجابةً وقبولاً وإيماناً وإذعاناً.
لَمّا سمع سيدنا عمر رضي الله عنه سورةَ طه من النبي عليه الصّلاة والسّلام كانَ سببَ انتقاله من الوثنية إلى الإيمان، وأتى جبير بن مُطعِم إلى النبيّ ﷺ في شأن أسرى بدرٍ، فدخَلَ على النّبي ﷺ في صلاة الفجر فسمعه يقرأ سورة الطور، فسمِعَ مِن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ [الطور:7-8] قال: “فمُلِئ قلبي رعباً ورهبةً وخشيةً مِن عذاب الله أن يقَعَ عليّ، وعلمتُ أنه ليس من قول البشر، وإنما هو من كلام خالقِ البشر”.
فبسماعه لآيتين انتقَلَ مِن الكفر إلى الإيمان، ومِن الهجران إلى الإقامة، فأهل الجاهلية بهذا القرآن وبمدرسة القرآن صار منهم أبو بكر رضي الله عنه الذي قال عنه النبي ﷺ: ((لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بإيمان الناس لَرَجَحَ)) ، وصار فيهم عمر رضي الله عنه الذي قال النبيّ ﷺ في شأنه: ((لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ)) فما لهذه القلوب في هذه الأجيال تسمع القرآن ولا يظهر فيها روحانيته ولا يظهر فيها الاستجابة إليه؟! فهل كان أهل الجاهلية أصفى وأنقى وأحسن قابليةً ممن يصلّي [اليوم] ويصوم ويحجُّ ويَقرَأُ القرآن؟ هم كانوا على بقية من دينِ إبراهيم عليه السلام وكانوا يؤمنون بالله، ولكنهم كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف:106]، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأَرضَ وسَخَّرَ الشَّمسَ والقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت:61] أي كيف ينصرفون؟
شفافيّة الروح عند الدّاعي إلى الله
والشاهد [هنا أن هذا التأثير كان يحدث] بوجود الداعي الأول ﷺ: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ﴾ [الأحزاب:46]، وبقوّة نور النبوّة وإيمان النبي ﷺ وصفاء قلوبهم وفهمهم للقرآن، لأنهم كانوا يتكلمون بالفصحى، ويحدث أيضاً بحُسنِ إصغائهم؛ فقد يُصغِي العدو إلى كلام عدوِّه أكثرَ مِن إصغاء ابنه إليه، فبآية يَنتقِلُ سيِّدُنا عمر مِن دينٍ إلى دين، وبسورة من سور القرآن يَنقَلِب مِن عدو يُريد إهلاك النبيّ ﷺ وقتلهِ إلى إنسان يجعَل حياته تحت قدمي رسول الله ﷺ.
والمسلمون في هذا العصر لماذا يَسمَعُون ويقرؤون ولا تظهَرُ فيهم هذه الآثار؟ بسبين، الأول: قوة نورانيّةِ الداعي، والثاني: مع أنّ النبي ﷺ كان عدوًّا لهم لكنهم كانوا يَسمعون إليه بإصغاء عميق، والعدو يَستمِعُ لكلّ حرفٍ مِن كلام عدوّه، وكلامه ﷺ روح ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [النحل:2] فهناك مِن الناس مَن بالفطرة في روحِهِم شفافية قابليةٌ عظيمة وهم كَفرة.
قالت إحدى الصحابيات: إنّ أحد الصحابة رضي الله عنه كان غلاماً أو مراهقاً يرعى الغنم لخالاته، فكان يتركها إلى مجلس رسول الله ﷺ ويأتي بها مساءً خاوية البطون، وكانت خالتُهُ وأمُّهُ يُوبِّخونه، لأنَّ هذه الشياه والغنم جائعةٌ، فشكى ذلك إلى رسول الله ﷺ فقال له: ((جئني بالغنم قبل أن ترجِعَ بالغنم)) وبعد أن أمضى يومه مع النبيِّ ﷺ أحضَرَ الغنمَ فمسَحَ عليها النبي ﷺ، فوصلَت إلى البيت وهي ملآنة الضّروع بالحليب [اللبن]، فقالت أمُّهُ وخالتُهُ له: “هكذا فارْع شياهكَ”، فقال لها: “والله يا أمّاه ويا خالتي ما رعيتُها اليوم إلا حيث كنتُ أرعاها بالأمس وقبله، ولكن محمَّدًا رسول الله مسَحَ على ضروعها، وكان ما رأيت”، ممَّا حملَها وحمَلَ خالتَهُ بأن ترى النبيّ ﷺ.. قال: فأتين إليه وهو يحدُثُ أصحابه فقلن: “كنا نرى النور يخرجُ مِن فمه”، وهنَّ مشركات .. فهذه شفافية الرُّوح مع أنهن في حالة الشّرك.
وهذا ما حصَلَ مع زعيم الأموتو، وقد سمعتم كلمته في الجامع، [الأموتو: طائفة دينية يابانية، التقى زعيمها بسماحة الشيخ كفتارو في الكرملين، ثم زاره في دمشق، في مسجده أبي النور، وأعلن إسلامه أمام الحضور] وكان فيما قال: إنَّ سببَ تعلُّقه بي أنني كنت أُلقِي محاضرتي بالكرملين بحضور غورباتشوف، فقال لي: “كنتُ أرى النور يَخرُجُ من فمك”، فهناك قابليةُ المستمع وقوّة روحانيّة المتحدّث، [ولا يحدث هذا] إن كان المتحدِّثُ ظُلْمانِيّاً والمستمع ميِّتَ القلب، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت:26] لذلك فإن ضعيف الاستعداد يَقوَى بالتوبة ودوام الذكر، وقوي الاستعداد يجب عليه ألّا يُضيِّع استعدادَهُ في لغو الحياة والبطالة وضياع الوقت، فإنَّ العمر قصيرٌ والسفر بعيد، وسعادةُ الأبد الـمُنْتَظَرة للإنسان ليسعد بها حرام أن يخسَرَها ويستبدلَها بشقاوة الأبد.
الهروب إلى الله من توحُّش الدنيا
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ يعني فِرّ إلى الله أيّها الإنسان الذي يعيش في غابات وحوش الشياطين الذين يُريدون هلاك روحِهِ وتمزيق إيمانه والقضاء على إسلامِهِ، وذلك بصحبة الغافلين أو الفاسقين أو الجاحدين أو الواقعين في هلكة الفسوق والعصيان والغفلات عن الله وعبادة الأهواء والشهوات، حتى صارت أنانيَّتهُ ومصلحتهُ وفائدتهُ ولهوهُ ولَعِبهُ مصدر الأمْرِ والنهي له، واتخذ إلهه ما تأمرُهُ به نفسُهُ الأمّارة بالسوء، فما تأمره هو الذي يكون وما لا مصلحة لنفسه فهو الذي لا يكون.. فِرَّ من نفسك إلى حضرة ربك، فِرَّ مِن الغفلة إلى الذّكر، ومن مجالس الجهل إلى مجالس العلم بالله.. وأوّل كلمة في الإسلام: “لا إله إلا الله”، لا أن تقولها، بل أن تشهَدَها “أشهد ألا إله إلا الله” وليس “أقولُ”، فيجب أن تشهَدَ بعقلك وقلبك وحواسك وكل مشاعرك، فإذا استجمعتَ قواكَ الرُّوحية وتوجَّهت إلى “لا إله إلا الله” [ينعكس فيك نورها]، فروحك كمرآة، وبقوة تَوَجُّه المرآة وتركيزها نحو الشمس ماذا تكون النتيجة؟ أن تنعكِسَ الشمسُ بأشعَّتِها وصورتها وحرارتها، فتستطيع أن تعكس الشمسَ أو هذه المعاني إلى ما يقابلها، فإذا قلت: “أشهدُ أن لا إله إلا الله”، بكلّ المشاعر وكلّ الطاقات الروحية والفكرية يَصير هذا الانعكاس، وكما يقول أحدهم
إذا سكنَ الغديرُ على صفاءٍ وجُنِّبَ أن يحركهُ النسيمُ
بَدَتْ فيهِ السَّماءُ بلا امتراءٍ كذاك الشمسُ تبدو والنجومُ
كذاكَ قلوبُ أربابِ التَّجَلِّي يُرى في صفوها اللّهُ العظيمُ
“الغدير”: يعني البحيرة، “على صفاءٍ”: الصفاء هو الحجر الأملس والصخر الأملس، يعني أن يكون أسفل البحيرة صخراً أملساً.
“وجنِّبَ أن يحّركَهُ النسيم”: لا يوجد هواء يجعل الماء يتموج.
“بدَت فيه السماء بلا امتراء”: فبصفاء الماء [ظهرت السماء فيه]، وبعدم تموُّجات وساوس الشيطان وأهواء النفوس، وبأن تكون أرض القلب ناعمة وملساء، فإن العالي يتنزل إلى الأسفل، والأسفل تنعكس فيه صورة الأعلى، [وبكلمات أخرى؛ فإن أنوار الله وهو ربنا الأعلى تنعكس في قلوب أنبيائه وهم في الأرض، وكذلك في قلوب أوليائه وأصفيائه] كما ورد في الحديث القدسي: ((كنتُ سمعَهُ فبيَّ يسمع، وبصره فبيّ يُبصِر)) ، “كذاك قلوب أرباب التجلي، يُرى في صفوها اللهُ العظيمُ” وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)) .
فيجب أن تفِرَّ وتبتعِدَ وتتجنب وتُفارق كلَّ ما يَحجبُكَ ويحجب روحَكَ عن روح الله، وعن نوره وعلمه، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف:65] ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا﴾ [الكهف:16].
من صحّ إلى الله فرارُهُ كان مع الله قرارُه
ماذا يوجد في الكهف والمغاور؟ هل هناك الجامعة الأمريكية أم الجامعة اليسوعية أم الجامعة السورية أم جامعة الأزهر؟ ماذا يُوجَد في الكهف؟ يوجد في الكهف خلوةٌ مع الله، فلم يذهبوا إلى الكهف لصخرهِ وحجارته، بل لِيَفِرّوا مِن الخْلقِ إلى الخالق، ومن الغفلة إلى الذّكر، ومن عبوديتهم لنفوسهم وأهوائهم إلى التفرُّغ لعبودية الله، وقد قال القائل: “من صحّ إلى الله فرارُهُ كان مع الله قراره”، فأيضاً فِرُّوا إلى الله ((فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ)) وماذا يأتي بعدها؟ ((وَرَسُولِهِ)) فالفرارُ إلى الله ورسوله، وهل لله مكان؟ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد:4] لكن كانَت القلوب لا تجده إلا في صحبة رسول الله ﷺ، واللهُ سبحانه كما يقول عن نفسه: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ فإذا كان معك أينما كنت فلماذا تذهَبَ إليه في المدينة؟ هل هو في المدينة؟ وهل يحدُّهُ مكان؟ لكن كان رسول الله ﷺ المرآةَ العظيمة المكَبِّرة المصقولة التي تعكس أعظم الأشعة الإلهية إلى قلب كلِّ مَن قابَلَها وأقبل عليها وامتزَجَ روحياً وحُبَّاً بها، وانعكَسَ ذلك في أعماله وأخلاقه وأفعاله.
التعرُّب بعد الهجرة من الكبائر
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ يعني إلى رسول الله ﷺ، ألم يرد في الحديث: “فهجرته إلى الله ورسوله”؟
أيضاً ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، يعني وإلى رسوله، ولذلك ورَدَ في بعض الأحاديث في ذكر الكبائر: ((وإن منها: التَّعَرُّب بعد الْهِجْرَة)) ما معنى التعرُّب؟ يعني ترك صحبة النبي ﷺ والإقامة في البادية مع الأعراب في جو الجهل والجاهلية ويعني البعد عن مجلس النور والإشراق والعِلْمِ اللّدني والحكمة الربانية، وعُدَّ ذلك مِن الكبائر، فإذا كانت الهجرة إلى الله ورسوله يعني إلى رسول الله، لأننا نجدُ الله عنده، وبعد النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى من سنُهاجِر؟ قال: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) فالعلماء لهم مدرستان: مدرسة أخْذِ العلم مِن الورق، ومدرسةُ أخْذِ العلم من قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:282] ومن قوله ﷺ: ((مَن عَمِلَ بما عَلِم أورثَهُ الله عِلْمَ مالَمْ يَعْلَم)) ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال:29]، هناك تقوى الأجسام وهناك تقوى القلوب.. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [الأنبياء:102]، ((أن تعبُدَه فلَا تعصِيَه، وأن تذكُرَهُ فلا تغفَل عنه، وأن تشكُرَه فلا تكْفُرَ بنعَمِه)) هذا حقّ التقوى، أما تقوى القلوب بأن يكون قلبُكَ دائماً في حضرة الله، وكذلك ميولاتك ومحبوباتك ومرضيّاتك وطمأنيّنتك وسكينتك مع الله عزَّ وجلَّ.
كنت أسمع من شيخنا رضي الله عنه يقول لي: “واللهِ يا ولدِي وأنا على فراش الزوجية لا يغيب قلبي عن الله”.
تحمُّل المهاجرين أعباء الهجرة فراراً إلى الله
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ فمِن جملة الفرار إلى الله تعالى الهجرةُ إلى رسول الله ﷺ، فقد كان أحدهم وإحداهن تُهاجِرَ وحدها أربع مئة وخمسين كيلو متراً مِن مكة إلى المدينة، وترك الصّحابة رضي الله عنهم أموالهم وتجارتهم وديونَهُم وأهلهُم، فالابن يَهرُبُ ويَترُك أمَّهُ وأباه، وتترك الزوجة زوجَها، ويترك الزعيم زعامته مهاجراً إلى رسول الله ﷺ، لأنهم كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النور:39] فإذا وجد اللهَ عند السراب ألا يجده عند رسول الله ﷺ؟ وألا يجده عند أحباب الله؟
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ فأنت الآن إذا كنت مع الله فهل يقال لك: فرَّ عن الله؟ أمَّا إذا كنتَ بعيدًا عن الله وواقعاً في المهالك وفي أنياب شياطين الإنس والجن وفي غاباتهم، وبين أفاعي تلك الغابات، فهل عليك أن تستوطِنَ هناك وتَبنِي منزلًا وتكون إقامتك الدائمة أم تحتاج إلى فرار؟
الفرار إلى الله بالصحبَة وبالصلاة
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ إلى أحباب الله صحبةً ومحبةً وقلبًا، ومِن المعصية إلى طاعة الله، ومن جليس السوء إلى الجليس الصالح، ومن مجالس اللّغو والفسق والضّلال إلى مجالس العلم والهدى والنور.
﴿إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ﴾ مرسَلٌ مِن قِبَلِهِ ﴿نَذِيرٌ﴾ منذرٌ، فإذا لم تنتقلوا وتُهاجِرُوا هجرة الصُّحبة وهجرة الأعمال والأخلاق والصفات والقلوب ﴿إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ﴾ نذير مِن عذابِهِ، ونذير من شقاءِ الحياة والمؤاخذة بالذنوب الظاهرة أو الباطنة ﴿نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ فلا يوجَدُ شيء مُخَبَّأ، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8] بعضُ أهل التقوى والصلاح يقول: “نظرتُ يوماً في وجْهِ مبتدع نظرة حبٍّ وشوقٍ، فأظلَمَ قلبي مِن نظرَتِي إليه عشر سنين” مَن الذي يَشعُرُ بلدغة العقرب والأفعى؟ هل الميت يشعر بذلك؟ وإذا لم يصرخ فهل هذه شجاعة؟ هذا موت، أمّا الذي يصرُخُ ويَشعُرُ بالآلام فهذا الذي فيه الروح والحياة.. وعلينا من أجل الصحبة أن نُفَتِّش عمَّن يجب أن نُهاجِر إليه، ولو أن نلتقي به في الأسبوع ساعة! وإذا كان ساعتين أو ثلاث أو أكثر فهذا أفضل.. وهذا إذا قبلوا أن نصحبهم!
فنفِرَّ إلى الله دائماً، عندك أربع وعشرون ساعة، دع ساعة لك مع الله، خاصّةً في الصّلاة، لتكونُ صلاتُكَ حراءَكَ وصلاتُكَ كهفَك ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:14] فتوضأ لتصلّي، وصلِّ لتذكُرَ الله عزَّ جلَّ، فإذا حقّقتَ الوضوء ولم تحقِّق الصّلاة.. فتوضّأنا ولم نُصَلّ، وأحرَمْنا في الحجّ ولكن لم نذهَب إلى مكة، فما الفائدة؟
طرفة: يأتي بالسنة ويفعل الحرام
يقال: كان هناك رجلٌ لا يتسحَّرُ في رمضان إلا طبخًا طازجًا، ويوقِظُ زوجتَهُ قبل الفجر بساعتين أو ثلاث لتطبخ له طبخةً جديدة، أمَّا طبخ العشاء فلا يأكل منه، وعندما يُصلّي الصّبح ينام ويستيقظ ويتناول الفطور، فقالت له: بما أنّك تفطر لماذا تعذُّبني هذا العذاب في منتصف الليل ولا تأكل إلّا طعاماً طازجًا؟ فقال لها: لقوله عليه الصّلاة والسّلام: ((تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً)) .
طرفة: قراءة إبليس للقرآن
سألوا الشّيطان فقالوا له: هل تقرأ القرآن؟ قال لهم: كلام ربي وكتابُهُ ألا أقرأه؟ فقالوا له: إذن أسمعنا، فقال لهم: أعوذ بالله، بسم الله الرّحمن الرحيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ [النساء:43]، فقالوا له: أكمل، فقال لهم: يقول الله: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمّل:20] قالوا: وماذا تحفظ غيرها؟ قال: ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه:121] قالوا له: أكمل: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ [طه:122] فقال: صدق الله العظيم، والله يقول: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ﴾ [المزمّل:20]. [فيقتطع جزءً من الآية ليأتي بعكس المراد منها، ويرفض أن يكملها]
الفرار إلى الله بصحبة المربّي
لذلك إذا لم يكن لك شيخٌ؛ شيخ حقيقيّ يُعلِّمُك الكتاب والحكمة ويُوقِظُ فيكَ كلَّ طاقات العقل في صغائر الأمور وكبيرها، في دنياك وفي أُخراك، [فلن تنجح في إسلامك]، فنصفُ الإسلام ﴿رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة:101] وهو أحد جناحي الإسلام، والنّصف أو الجناح الثاني: ﴿وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً﴾ نال سيدنا عثمان رضي الله عنه شهادة ((ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد هذا اليوم)) بالعمل بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾، وذلك لَمَّا جهَّزَ ثلثَ جيش تبوك؛ جيش العسرة، والنبيُّ ﷺ ما أعطى هذه الشهادة لأبي هريرة ولا لبلال رضي الله عنهما، بل أعطاه لِمَن بَنَى نصفَ الإسلام الأول وهو: ﴿رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ أن يكون اقتصادك حسناً وصحّتك حسنة وتفكيرك حسناً وأخلاقك حسنة ووقتك لا تملأه إلا بالأشياء الحسنة، وتكون صحبة صاحبك حسنةً، فيُعطيك الخير ويُجنِّبك الشر، وتكون قوة الدولة حسنة، والتصنيع حسَناً.
الإسلام المنتج في كلّ المجالات
وهذا كله عزلناه عن الإسلام، ولم يبقَ مِن الإسلام إلا الجسم، أو مثل البقايا التي بقيت مِن أمّ كلثوم اليوم، وماذا بقي الآن مِن أم كلثوم؟ [أم كلثوم: مغنية مشهورة يُضرَب بها المثل في حسن الصوت، وقد قال سماحة الشيخ ذلك بعد وفاتها بسنوات]، فإذا أحضَرنا عظامها وأردنا أن نُقيم حفلة كم شخصاً سيأتي؟ أو أحضرناها عندما خرجَت روحها، حيث ما زالت بشحمها ولحمها، فهل هناك أحد يحضُرُ ليسمع مَوَّالاً؟ [الموال: أغنية] بل يصير الموال هناك ولاويل.. صدًى ينعكِسُ في كلّ مَن يَحضُر جنازتها.. وهذا وضع الإسلام في نفوس كثير مِن المسلمين والمسلمات! وذلك لفقد الشّيخ، فكتُبُ الطبّ لا تصنع طبيبًا، وكتب الهندسة لا تصنعُ المهندس، وكتب الطيران لا تصنعُ الطيّار، فلا بدَّ مع الكتاب مِن مدرِّبِ الطّيران، ولا بدَّ للمهندس مِن أساتذة الهندسة، ولا بدّ ليكون طبيبًا مِن أساتذة الطبّ، فأنتَ يا مسلم: لقد أخذتَ كتابَ الإسلام الذي هو القرآن وقرأته، لكن هل الكتابُ وحدَهُ يَصنَعُ الطبيب؟ إنّ كلّ كتُبِ الطّبّ وكل كتب الهندسة لا تصنع طبيباً ولا مهندساً، فإذا لم تصحب دليلك إلى الله ولم تفنَ به ولم يَصِر هواك تبعاً لهواه فلن يكتمل إيمانك، والحديث النبوي يقول: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)) .
لما قال النبي ﷺ: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) فهم العلماء بالله وبشريعته، لا شريعة الصّلاة والصّوم والحج والزكاة فقط، فمن العلم ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان:67] هذا هو علمُ الاقتصاد، ومِن العلم ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف:31] وهذا هو علمُ الصحة ووقاية الأبدان من الأمراض والأسقام، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال:46].
أين إسلامُكَ من هذه الآيات التي كلّها لَبِنَاتٌ في بناء الإسلام؟ وذلك حتى يكمُلَ الإسلامُ فيكَ وفي المجتمع وفي الأمة.. ونحن لا نَعُدّ هذا مِن الفقه.. قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ الآن يُعطون شهادات دكتوراه في علم الأغذية، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا﴾ صار لهذه الآية علم اسمه علمُ الاقتصاد، وعلى أساسه يَكون نجاح الأمة أو فشلها، وأنشأوا له وزارة في كلّ وزارات العالم، فالاقتصاد مِن آيات القرآن، ويقول سبحانه فيه: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء:29].
وعن التصنيع بقسميه الحربيّ والمدنيّ يقول تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد:25] هذه الصناعة الحربية ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ وهذه الصّناعة المدنية، فهذا توجيهٌ علميّ، والتوجيه العمليّ ذَكَره الله سبحانه في سورة سبأ عن داود عليه السّلام: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ [الحديد:10-11] لم يقرأها فقط، بل قرأَها وطبَّقَها واختصّ بالصناعات الحربية، واختص سيدنا سليمان عليه السّلام بالصناعات المدنية فقال سبحانه: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ [سبأ:10]، فيستخرج النحاس ويَصهرُهُ ويُذيبُهُ ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ﴾ [سبأ:13]، وبعدها ذكَرَ الله سدَّ سبأ، وهل لبناء السّدود علاقة بالدين؟ وفوق ذلك سمى الله سورة من سور القرآن باسمّ السدّ، ويأتي الأوروبيّون ليكتشفوا في صحراء الجزيرة العربية أكثَرَ مِن ثلاث مئة سدّ، أحدها سدّ سبأ، ولا يوجَدُ لديهم في أوروبا سورة سبأ، والمشايخ كم سدًّا اكتشفوا؟
وعندما تقرَأُ أيّها الفقيه أو أيها الشيخ سورة سبأ فهل تُفكِّر -بالمستوى الأقل- بمقصد الله في العنوان، والعنوان: أنّه يا عرب بالإسلام حوِّلُوا صحراءكم إلى جنان كما فعل آباؤكم مِن غير قرآن، فآبائكم هكذا فعَلُوا! والقرآن يُسمّي السورةَ بسورة سَدِّ سبأ، وبعد كل هذا فنحن لم نكن عربًا كآبائنا في بناء السدود، ولم نكن مسلمين ومؤمنين بالقرآن لنحوِّلَه من قرآن التلاوة إلى قرآن العمل والمشاهدة والواقع.. والإسلام أينما وُجِد في نفوس أي أمّة بحقائقه وعلومه وأوامره ونواهيه وحكمته وحديده وسَبَئِه، وكما قال فيه تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر:2]، وقال أيضاً: ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:197]، وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ﴾ [سبأ:15]، [فالإسلام أينما وُجِد بهذه الحقائق فهو المنتصر].
ونحن ندعو ونقول: “اللهمَّ انصُرِ الإسلام والمسلمين”، لكنه إن وُجِدَ الإسلام والقرآن مجسَّمًا في أعمال وحقائق تُشاهَد في العيون والقلوب والعقول والأفكار والأخلاق والسلوك فإن الله يقول لنا ومن دون أن نَطلُبَ مِنه النصر: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47] ويقول في آية أخرى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [الحج:40] “ولينصرنَّ” هذه النون نون التوكيد الثقيلة، ولماذا قرأنا النحو وعرفنا أن هذه نون التوكيد؟ حتى نحرِصَ على نصرة الله، لأنَّ الله ما وعدَنا بالنَّصر فقط، بل وأكَّدَ لنا وعدَهُ، لكننا لم نفهم الوعد، لأنّه لا يُفهَمُ القرآنُ حقّ الفهم، ولا يُفْهَمُ الفهم النافع إلا إذا كان لك قلبٌ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37] أو ألقى: ألقيتَ بكلّ عقلك وكلّ تفكيرك إصغاءً إلى القرآن؛ وإصفاءً إلى الأمر لتِأْتَمِر وتَمْتَثِلَ، وإلى النهي لتجتنب وتبتعد، وإلى الفضائل لتتّصفَ وتتخلَّق، وإلى الرذائل لتجتنب وتتحرز.
صفاء القلب ومشاهدته لله
أنت تقرأ القرآن بلا فَهْم ولا فكر ولا تدبُّر، وتقرأه بلا قلب، وأخصّ القلب لأهميته، فهذا القلب لا يَعرِفُهُ إلا مَن دخَلَ المدرسة الثانية: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾، فالنبيّ ﷺ مَن أين أخَذَ النبوّة؟ أخذها من مغارة، [غار] ما هي المغارة؟ ليس المقصود بالمغارة مغارة طبيعية، فالمغارات كثيرة، لكن “من مغارة” يعني: فَرَّ إلى الله مِن خَلْقِهِ، لئلّا يُشغِلَ قلبَهُ وأحاسيسَهُ وتفكيرَهُ بغير الله، وبقي سنين متواصلة، وفي كل مرّة يمكث عشرة أو عشرين أو ثلاثين أو أربعين يومًا، صفاءٌ فصفاءٌ فصفاءٌ.. ويَصْقُل الحجرَ المـَرْمَرَ صقلاً صقلاً.. وبعد ذلك وفي النهاية ماذا يحدث؟ يصير مثل المرايا؛ تنعكِسُ فيه صورةُ ما يُقابِلُهُ.. والقلب هو الرّوح وهو النفس، فإذا صُقِلَت ذنوبُها التي رانَت على مرآةِ قلبِها حتّى زالَت ظُلُمَاتُها ونُقَطُها السوداء وتوجَّهَت إلى الله يَنعكِس في مرآةِ القلب العلمُ اللّدني والحكمةُ الرّبانية وتتزكّى النفس، ومن ذلك ما يقول أحدهم
قلوبٌ إذا مِنهُ خَلَت فنفوسُ لأحرُفِ وسواسِ اللعين طُرُوْسُ
فالنفوس أمّارة بالسوء، “والطروس” الدفاتر، يعني يصير قلبُكَ دفاترَ بيضاء يؤلِّفَ فيها الشّيطانُ كتابَهُ، فيصير قلبُك كتابَ الشيطان ومكتبتَه وعلومه، ويَخْرُج ذلك بالإذاعة التي هي لسانك، ويخرج ذلك بأعمالك وبأخلاقك وبصفاتك، لأن قلبَكَ خلا مِن ذكر الله.
طرفة: ضاع جَمَلُه على سطح هارون الرشيد
قيل: كان هارون الرشيد ليلة من الليالي يدعو الله بعد التهجُّد ويبكي ويقول: يا ربّ اجعَلْنِي وليًّا من أوليائك، فسمع دبيباً فوق السّطح، فقال: من هذا؟ فأجابه مجيب: رجلٌ ضاع منه جملُهُ فهو يُفَتِّش عنه، فقال له: يا أحمق أتجاوِبُ أمير المؤمنين بهذا الجواب؟ وهل الجمال تصعَدُ إلى السطح؟ فقال له: أنت يا أحمق غريقٌ في بحار الدنيا وتطلُبُ منِ الله الولاية؟ فهل الولاية تُنال والإنسان غريق في بحار الدنيا؟ فكذلك إن كنت تريد قلباً وأنت ما زلت لا تعرِف ما هو القلب! وقد قرأتَ التفاسير.. كم مرة ذُكِر القلب في القرآن؟ وكم مرة قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحجّ:46]؟ [بمعنى: كم مرة ذَكَر مثلَ هذه الآية ونسب العمى للقلوب؟]
ما القلب؟
ليس القلبُ العقلَ، بل هو جُمْلَةٌ عصبية، وقد كنت أستغرب أنّ كثيراً مِن الناس يقولون: القلب المذكور في القرآن هو العقل، إلى أن سألتُ الأطبّاء وقرأتُ ذلك في بعض الكتبِ، فالقلب له جملة عصبية مستقلّة، وهي التي تُحرّك القلب، ومن دون الاتصال بالدماغ والأعصاب المتفرِّعة مِن الدّماغ، لذلك إذا قُطِعَ القلبُ ووضِعَ في أوعية غذائية خاصّة به يَبقَى يضخُّ ساعاتٍ أو أكثر مِن يوم وليلة، ففي داخل القلب الجسديّ مجموعةٌ عصبيّة، وهذه المجموعة العصبية هي موضع الإدراك الإلهي، فبماذا يصير القلبُ القرآني؟ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ وعند ذلك يَستطيع أن يهضم الغذاء القرآني ويتمثَّل فيه عملاً قلبياً وعملاً عقلياً؛ حكمةً، ويتمثَّل فيه أخلاقاً ونفساً زكيةً، وإذا لم تكن عنده معدَة أو كانت المعدة خربة فمهما أكَلَ فإن الغذاء يزيده مرضاً وداءً، ولذلك قال
قلوبٌ إذا مِنهُ خَلَت فنفوسُ لأحرُفِ وسواسِ اللعين طُروسُ
وإن مُلِئَت منه ومِن نُوْرِ ذِكْرِهِ فتلك بُدُورٌ أشرقَتْ وشموسُ
“وإن مُلِئَت منه” من جلاله وخشيته وهيبته “ومِن نور ذكره، فتلك بدورٌ أشرقت وشموس”، تُشرِق بنور الله، ويصير القلب شمساً يُنيرُ الطّريق إلى السعادة ويُزيلُ الظُّلماتِ في طريق الحياة والأعمال والأخلاق والمعاملات.
الفرار إلى الله بالصحبة والمحبّة في الله
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ ذِكرًا، وفرُّوا إلى الله توبةً، وفرُّوا إلى الله امتثالاً لأوامرِهِ وعملاً بوصاياه، وهجرةً وصحبةً مع أحبابه “امشِ ميلًا وزر خليلاً”، ومِن جملة مَن يُظلُّهم الله في ظلّ عرشه يوم القيامة: ((وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ)) ، وفي الحديث القدسي: ((وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ)) ، تزوره لا لكي تتسلَّى أنتَ وإياه بكلام اللغو وكلامِ: بِعنا واشترينا وذهبنا وأتينا.. بل للمجالسة في الله، وذلك إمّا بذكره لساناً أو بذكره قلباً، وذلك مع أدب الصحبة.
قصة عن الذكر مع الشيخ أمين كفتارو رحمه الله
يقول لي أحدُ مريدي شيخِنا رحمَهُ الله وقدَّسَ روحَهُ أبو مصطفى الخرفان رحمة الله عليه وغفَرَ الله له: في رمضان بعد صلاة التراويح كان الشيخُ يَعتكِفُ، فنزَلَ معَهُ إلى الغرفة فقال لي: بمجرّد الجلوس، دخَلَ شيخُنا في المراقبة.. وقال لي: وأنا كذلك دخلت، وإذا بي أرى شلّالًا مِن نور من قلبِ الشيخ؛ كالشّلال الهادر إلى قلبي -قلبِ أبي مصطفى- قال: في أثناء ذلك فتحتُ عينِي لأنظُرَ إلى الشيخ، فما رأيتُ له جسَدًا؛ لا رأساً ولا كتفين ولا يَدينُ ولا صدرًا، وما رأيت إلا كتلة مِن نور على الفراش، قال: ثم عدتُ للمراقبة، وما هي إلا لحظات -من بعد صلاة العشاء- حتى أذَّنَ الفجر.. [فمن بعد صلاة العشاء إلى الفجر شعر أنها لحظات فقط] وهذه صارت بعد شيخنا لأخ من إخوانكم، وهو أخوه لحكمت سفر، ما اسمه؟ نايف سفر رَحِمَه الله.. ولا يكفي ذلك، بل يَجِبُ أن يَكونَ معَهُ علومُ القرآن.
علوم القرآن تستلزم العمل والتطوّر والبناء
ومن علومِ القرآن ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ:10]، ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ [سبأ:10]، وسورة الدّخان: فأين مداخِنُنا؟ وسورة الحديد: أين مصانعُنا؟ وسورة سبأ: فأين مزارعُنا وسدودنا؟ أتذكّر أنني مِن عشرين سنة ذهبتُ برحلةٍ مِن حلب إلى الشّاطئ ورأيت حينها الأودية تسيلُ إلى البحر، وقلتُ في دروس متعددّة: أليس هذا حرامًا؟ فالإسلام قطعةُ خبزٍ يُحافظ عليها، ونرى الآن إعادة التصنيع، فالتنك يُعيدُونهُ تنكًا، والورق يُعيدُونهُ ورقًا، وهذا من معنى الحفاظ على قطعة الخبز، وهذا من الفقه في الدّين، وهذا من فقه: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ﴾ [الحج:40]، ففي مجال الاقتصاد منتصرٌ، وفي مجال الزراعة تأخُذُ كأسَ البطولة، أما اليوم فبطولتنا صارت في كرة الأولاد الصغار والضرب بالأرجل، فالحمير تضرب بأرجلها وبني آدم يَضرِبُ بيديه.. وأين بطولة الحكمة وبطولة علوم القرآن وبطولة ثمرات القرآن وأعمال القرآن؟ فالقرآن أن تكون أنتَ القرآن؛ قرآن العمل وقرآن الخُلُق وقرآن الحكمة وقرآن التزكية.
فالذي يُريد أن يصير نجّارًا يجب أن يكون تحت نَظَرِ النجّارين، أما الذي يريد ذلك وهو بعيد عنهم، فلو عاش عمر آدم لا يُصير نجّارًا.
الاستعداد للفرار إلى الله والاتعاظ من ذهاب الأوّلين
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ فهل نحن مستعدّون؟ وهل تفِرّ إلى الله أمّ إلى الشيطان وإلى أهوائك؟ أم تفرّ إلى الأنا؟ وتقول: أنا وأنا وأنا وأنايتي ومصلحَتِي وفائدتي ودنياي.. غداً يا مجنون.. أخبرني: أين أبوك؟ وأين جدُّك؟ وأين جدُّ جدِّك؟ وهذه الجنائز أليست لك دروساً وعِبَراً؟ وإذا شاهدتَ مَن وَقَف أمّام القطارُ وداسَهُ.. ألا يَكفيكَ منظرٌ واحدٌ؟ ونحن نرى كل يوم عشرين جنازة، فلماذا لا تتعظ؟ لأنَّ قلبَكَ ميّتٌ يا بُنَيَّ.
كان هناك رجلٌ أعمى تزوّج امرأة، فكانت دائماً تقول: “آه لو كنت مُفتّحًا [مبصِراً] وتَرَى عيوني التي تسبي سَبْياً، عيوني الخضراء والزرقاء.. آه لو كان لك عينان مبصرتان لتَرَى خدودي، فهما أحلى مِن تفّاح الدّنيا!” فقال لها: “كفاك، لقد أكثرتِ عليّ! ولو كان فيك خيرٌ لما ترككِ المبصرون”.. فدعونا نصير مسلمين حقَّاً ونتعظَّ بكتاب الله: ﴿إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ والموتُ لا تعرف متى يأتي!
حافظِ على صلواتك الخمْسِ
كم مصبحٍ وعساهُ لا يُمسي
واستقبل اليومَ الجديدَ بتوبة
تمحُو ذنوبَ صبيحةِ الأمْسِ
فليفعلَنَّ بوَجِهِك الغَضِّ البِلَى
فِعْلَ الظّلامِ بصورة الشمسِ
يا بني: إن الحياة فرصة، ولو نفقه هذه الكلمة وحدَها تكفينا.. مثل ذلك الأعرابيّ الذي قال: عِظني وأوجز! فقال له: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8]، قال له: تكفيني! فقال: ((أفلح الأعرابي إنْ صدَق)) .
﴿وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ﴾ [الذارّيّات:51] لا إله إلا الله، فهل أنتم مِن أهل لا إله إلا الله؟ بالقول كلُّنا نقول: نعم، لكن يا ترَى بالعمل؟! فعندما تغضب يأتيكَ إلهٌ ثانٍ وهو نفسكَ الإمارة بالسُّوء، والله يقول لك: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ ليس فقط الغيظ، بل: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ وليس فقط العفو، بل: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران 134] لكنّ نفسك تقول لك: اقتلْهُ وسُبَّه وردَّ له الصّاعَ صاعين والكلمة عشر كلمات.. والله عز وجل يقول لك: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد:54] ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [المؤمنون:96]، والنّاس تقول: “هذا الفاعل التارك! وسأفعَل وسأترك!” [قولهم: “الفاعلُ التارك” مصطلح عامي وهو كناية عن شتم إنسان وتحقيره، وقولهم: “سأفعل وسأترك” أيضاً مصطلح عامي كناية عن التهديد والوعيد، كأن يقول: سأقتله وسأهينه وسأجعله متسوِّلاً…] فأنتَ جعَلْتَ مع الله إلهاً آخر: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23]، أضلَّه الله على عِلْم: إنّ عِلمَ القراءة ليس علمًا، بل هو حجَّةُ الله على ابن آدم، و((أبغض إله عُبِدَ في الأرض الهوى)) .
الإيمان حملٌ للألفاظ والتزامٌ بالمعانيّ
فهل كفرتَ بالهوى وآمنتَ بالله الإيمان العمليّ؛ في الرّضا والغضب، وفي الفقر والغنى، وفي المصلحة وعدم المصلحة؟ وإذا فتّشنا أنفسنا وقِسْناها بمقياس القرآن نخرج خارج الإسلام وخارج القرآن، ولو حفظناهُ على القراءات السّبعة والعشرة والأربعة عشر! أكثرهم يقرؤون القرآنَ على القراءة الخامسة عشر، وما هي القراءة الخامسة عشر؟ هي مذكورة في القرآن: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ حمَلُوا ألفاظَها وحفِظُوا كلماتِها ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ بأعبائِها وامتثال أوامرِها وتحقيق وصاياها ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] فعندهم توراةٌ وقراءةٌ ودراسة للتوراة بالورق، ولكن في ميدان العمل والتطبيق والتّنفيذ سمّاهم اللهُ حميراً، فيَحملون كتباً ولا يفهمون ما فيها.. إذا فهمَتَ الأفعى، فما المقصود من الفهم؟ هل تجعَلُها ربطة عنق أو عمامة؟ وهل تجعل العقربَ في سلسة [قلادة] وتضعُهُ على صدرِكَ؟ [بمعنى أن تضع العقرب الحي في قلادة وتضعه على صدرك، كما تتزين النساء حين تضع قلادة مزينة بأحجار كريمة حول رقبتها أو على صدرها] هل هذا معنى العِلْمِ بالعقرب؟ فمعنى العلم بالعقرب أن تجتنبهُ وتَسْحَقَه.
تجنُّب عبادة الإله الآخر من الأنا والصّنم
﴿وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ﴾ وهو الأنا والهوى، وأمّا الصّنمُ فأمرُهُ هيّن وتركُهُ سهلٌ.. وكذلك عبادة سيّدنا المسيح عليه السّلام، فأكثرُ أساتذة الجامعات اليوم في الدّول المتقدّمة؛ في الشرق والغرب، وحتى المتدينون منهم يرفضون ربوبيّة التّمثال وألوهيتَهُ.. أمَّا هواك وأناك فهذا إلهٌ متغلغِل فيك، وقد جعَلتَهُ كنفسكَ، ففَنَيْتَ به وهو قد فني فيك، هذا الإله الذي قال النبي ﷺ عنه: ((أبغضُ إله عُبِدَ في الأرض))، ولذلك كان بعضُهُم يقول
بيني وبينَكَ “إِنّي” لا تفارِقُني
فامحُ بفضلِكَ لي “إِنِّي” مِن البَيْنِ
يعني أَبْعِدْ عني ما بيني وبينك، ودعني أنا وإياك، فأنا وحدي وأنت وحدك.
أنا الفردُ عندَ الموتِ والفردُ في البِلى
وأُحشَرُ فرداً فارحمِ الفردَ يا فردُ
سبب ذكر هذه الآيات شحناً للطاقة وتقويةً للعزيمة
ذكَرَ االله تعالى في سورة الذاريات أحوال القيامة وأحوال المتقين والكافرين والأمم التي كفرت بالله؛ قوم نوح وقوم لوط وثمود قوم صالح، وعاداً قوم هود، وفرعون، وكيف أنَّ الله عجَّلَ لهم العقوبة في الدّنيا لكفرهم وضلالهم واتباع أهوائهم، وذكرَ ذلك للنّبيّ ﷺ شَحناً لطاقته وتقوية لعزيمته ليصمُدَ في أداء واجب الرسالة والتبليغ وأمر الدّعوة، كما قال النبيّ ﷺ: ((مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مثل مَا أُوذِيْت)) فهم لم يَدَعُوا نوعًا من أنواع الأذى في القول والعمل إلّا انتهكوه، وآذَوْه في نفسِهِ وفي كرامته وفي أهله وفي ماله وفي حياته وفي دمه، كل ذلك في سبيل أن يجعلَهُم ملوكَ الدنيا وملوك الآخرة.. إن سيدنا يونس عليه السلام لم يستطع أن يصبِرَ على ذلك، وبعد أربعين أو خمسين سنة ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الصافات:140] فقال الله للنبي محمد ﷺ: ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ [القلم:48] وكان الله ينزّل القرآن عليه بشكل دائم: ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان:32].
ومن جملة تثبيتِ الفؤاد قال الله عزَّ وجلَّ للنبي ﷺ: ﴿كَذَلِكَ﴾ [الذاريات:52] يعني إذا رأيتَ إعراضَ قومك وإيذاءهم لك ومعاداتهم، فقد “قتَلُوا ابنته زينب رضي الله عنها وهي راكبة على ناقتها وحُبلى، فنخَسوا الجمل برمحهم فهاج الجمل فسقطت فأجهضَت فماتَت” ، وبماذا قابلوه مقابل أن يَجعَلهُم ملوكًا؟ أعطوهُ لقَبَ “ساحر” كمكافأة، ومرّة يقولون: “مجنون” ومرة: “كذّاب أشر”.. وكان نزول الوحي والقرآن كما قال تعالى: ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾، وقد قال تعالى له أيضاً: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:35].
قال له: ﴿كَذَلِكَ﴾ يعني هذا الأمر وهذا الشأن؛ شأن النبوة والرسالة والدعوة.. فيبدأ الأمر أوّلًا بمرحلة التكذيب والعداء والأعداء والمعاداة، وأنت في سبيل الله [لا تأخذ منهم أجراً] ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ [الأنعام:90]
أُريدُ حياتَهُ ويُريدُ قَتلِي
فأترُكُ ما أريدُ لِما يُريدُ
فهذا الأمر لا يَقْدِر عليه إلا كما قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل:127] فبطاقتك وحدَها لا تستطيع أن تدخُلَ المعركة وتنتصر، أمَّا إذا دخلتَ بالله، ومع الله، والله معك، فبمقدار هذه الصِّلة تأتيك القوة ويأتيك المدد، وتأتيك المعونة، ويأتيك الحفظ، وتأتيك الرعاية ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ [الأنفال:17] ((كنتُ سمعَهُ فبيّ يَسمَعُ)) إلخ.. ألم يكن عمرُ رضي الله عنه يريد قتل النبيّ ﷺ؟ ماذا صار بعد ذلك؟ صار بعدها كما قال النبي ﷺ: ((لو كان بعدِي نبيٌّ لكان عُمر)) .
فلو أنَّ النبيّ ﷺ لم يَصبر.. لذلك فالله يقول له: ﴿كَذَلِكَ﴾، فالأمر في كلّ الأمم هكذا.. وحتى المرأة إن أرادَت أن ترى ابنَها قرّة العين تبقى تسعة أشهر تعيشُ فيها ليالي لا تنامُ وتستقيء، ويَصيرُ معها أمراضٌ متعدِّدَة، وهكذا حتّى ترى الولد، فهل سنرى تحقيقَ الإنسان السّعيد والمجتمع السّعيد هكذا وبسهولة؟ قال له: هكذا كل الأمم مع أنبيائها.
﴿كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذارّيّات:52]، وأنت لست بدعاً مِن الرسل، وهل يَستثنيك الله وحدك؟ وكذلك الذي سيَصيرُ مِن الورثة “وارثاً نبوياً” سيمرُّ بكلّ هذه المراحل، وهذا هو الشِّقُّ الأول، أما الشِّقُّ الثاني فهو
طلعَ البدرُ علينا
من ثنيَّاتِ الوَدَاع
والشِّقُّ الثاني: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [الحج:40]، ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف:86] ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران:123] ثقوا بالله! واصدقوا مع الله! لا بالتمني والأماني، فالصّدقُ مع الله بألّا تُضيّعُ ثانية من وقتك، ولا تمضي ثانية إلّا في عمل صالح، سواء أكان عملًا قلبيًّا أم مجاهدة للنفس أم إحياء للقلب بذكر الله، أم صحبة، كما قيل: “لا تصحَب مَن لا ينهضك حالُهُ أو يَدلُّك على الله مقاله”، وهذا شيء ثمنه غالٍ، وثمنه بذل المهج والأرواح والنفوس، فالذي يَبذلُ ثمن الألماس يَصِلُ إليه، وأمّا الذي يَدفَعُ ثمن الألماس بما يُشتَرى به الزجاج، فهل يَصِلُ للألماس؟ يعطونه زجاجًا. [الزجاج يشبه كثيراً الألماس]
ثبات النبيّ عليه الصّلاة والسّلام في تبليغِ دين الله
قال: ﴿كَذلِكَ﴾ كذلك الأمر مع كلّ الأنبياء ومع كلّ الأمم، وأنتَ مِن جملتهم، فلا ترى نفسَكَ أنّه لك خاصة، لذلك يجب أن تصبرَ وتتحمَّل.. وصبَرَ النبيُّ ﷺ وتحمَّل إلى آخر لحظة مِن لحظات حياته، حتى توفي مسموماً مِن أكلة خيبر، وقال: ((هَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِن أكلة خيبر)) ولَمَّا رأته سيدتنا فاطمة رضي الله عنها في النزع قالت: “واكرباه” قال: ((لا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ)) معناه أنّ حياة المؤمن كلّها كفاح، وكلّها بناء، وكلّها جهاد، ويبذلُ الجهد في إسعاد الإنسان.
ماذا أراد النبيُّ ﷺ؟ هل أراد دُنياهم أو أموالهم أو أن يجعلوه ملكاً عليهم؟ عرضوا عليه أجمَلَ نسائهم، فقال لهم: ((لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي)) يعني لو ملَّكتموني الأرض والسماء ((على أن أرجع عن هذا الأمر لا أرجع حتى يظهره الله أو أهلك دونه)) كان ﷺ واثقًا متيقنًا، وكذلك نحن واللهِ واثقون يا بُني! ولكن [الدعوة تكون] بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالشفقة وكمال الرحمة وبالحبّ والتفاني في خدمة مخلوقات الله.
﴿كَذَلِكَ﴾ يعني شأن الأمم مع الأنبياء من عهد آدم إلى نبوة محمد ﷺ ومع كلّ وارث نبويّ ﴿مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ هذا ساحرٌ أو مجنون، هل للتنصيص على هذين اللفظين؟ لا، هذا كمثال، وهناك أناس يقولون: “كذّاب” وأناسٌ يقولون: “نَصّاب” [سارق مخادع] وأناسٌ يقولون: زوجته كذا، وأناس يقولون: ابنته، وأناسٌ يقولون: سيارته، وأناسٌ يقولون: مالُهُ، فكلّ واحد يحكي بما يشاء، وأحدهم يقول لك: “رأيتُ بعيني” وعندما تُقيم عليه الحجُّة وتُظهِرُ كذبَهُ، يقول: “هكذا سمعتُ الناسَ يقولون”.. فافرحْ أنّ القِطارَ -والحمدُ لله- يمشِي على سكّةِ الحديد وِراثةً محمدية.
[هذا الكلام بعض مما آذى الناس به سماحة الشيخ في حياته، فقد كانوا دائماً يأفكون ويُلَفِّقون الأكاذيب عليه، فكثيراً ما طعنوه في عرضه، وتكلموا على زوجته وبناته وأنهن من الفاجرات، واتهموه في ماله، وكذلك كانوا يخترعون القصص من أجل سيارته حسداً وبهتاناً، مع أنه من المفروض بداهة أن تُخَصَّص سيارة من الدولة لمنصبه العالي؛ منصب المفتي العام للجمهورية العربية السورية!]
كأنّ الكافرين التقوا وأوصى بعضهم بعضًا في الصّد عن سبيل الله
قال: ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذارّيّات:53] قاتلَهُم الله! فهل فرعون هكذا أوصى أبا جهل؟ وهل ثمود قوم صالح وعاد قوم هود أوصوا قريشاً أن يُعامِلوا النبيّ ﷺ مثل ما عاملوا أنبياءَهم؟ قال: لا، لم يوصوا؛ فبينهم مئات السنين والدّهور، فلماذا إِذَن خرجَت أعمالُهُم مثل أعمال الكفرة الذين سبقوهم؟ قال: لأنّ طبيعتهم واحدة وفطرتهم متشابهة، ولذلك ستخرج النتائج والثمرات والمعاملة موحَّدة، فيفعلون معك يا محمّد كما فعَل أولئك مع أنبيائهم، وكذلك يفعل من مشى على سكَّتِهم ومَن فطرتُه شابَهَت فطرتَهم.
﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ﴾ فهل قوم صالح الذين هم ثمود أوصوا قريشاً بأن اعملوا مع محمّد كما عملنا مع صالح؟ قال: لا.
طغيانهم هو ما دفعهم إلى التكذيب والافتراء
قال: إذاً لماذا هكذا فعلوا؟ قال: لأنهم ﴿قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ طغيان وإسراف وتجاوز للحدود من الباطل إلى الحق، ومن الإذعان إلى التمرُّد، ومن الطاعة إلى المعصية، ومن الشكر إلى الكفر، ومن التعظيم والإجلال والاحترام والتفاني تحت أقدام النبي ﷺ إلى حال قال فيها النبيّ ﷺ: ((ما أُوذِيَ نبيٌّ مثل ما أوذيتُ))، وكذلك الوارث النبوي.
سمعت من شيخنا مرة أنه أتاه زائرٌ -ويبدو أنه شيخ مِن العلماء- فقال له: ألك أعداء؟ فقال له الشيخ: لي أعداء، فقال له: هل عددُهم كثير أم قليل؟ قال له: ماذا تريد؟ قال: أرجوك أجِبني عما أسألك، قال له: والله عددُهم كثير، فقال له: الحمد لله، فقال له: ماذا؟ قال له: أتيتُ مِن حلب ومِن حمص ومِن حماه، ولم أسأل أحداً عنك إلا يثني عليك خيرًا، فقلتُ: رجل يثني عليه كل الناس خيراً فهذا لا يكون مِن الأولياء، والأولياء على قدَمِ الأنبياء، فلا بدّ إلا يكون له أعداء، فلم أرَ لك عدوًا.. قال له شيخنا: يا بُنيّ مِن حسنِ حظّك أنّ الله جمعَكَ بالأحباب، أمَّا لو عرَفتَ الحقيقة فإن الأحباب لا يُشَكِّلون واحدًا بالألف، أما الباقي.. نسأل الله أن يعفو عنا.
تجاوزهم للحدود في مواجهة القرآن
﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ تجاوزوا الحدود، فبدل الحب تصير العداوة، وبدل الخدمة تصير الأذية، وبدل الإقبال يصير الإدبار، وبدل قوله سبحانه: ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ [الأعراف:204] يصير كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت:26] فلَمَّا كان النبي ﷺ يقرأ القرآن كان يصفِّقون ويصفرون “ويَدْبِكون” [يَدْبُك: يرقص مصدراً صوتاً عالياً بيديه ورجليه، ومنها: رقصة الدَّبْكة، وهي معروفة في سوريا وما حولها] حتى يُشوّشوا على النبي ﷺ تلاوتَهُ للقرآن فلا يَسمَعهُ الناس ولا يستطيع تبليغه، لكن كما قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء:18] الويلُ: الهلاك، لأنّ الأفّاكين سيَهلكُون ويفنى إفكُهُم.. ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ الكاذبة وكلماتِهُم الباطلة ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ [التوبة:32] إذا بصَقَ أحد على الشمس وقت الظهر إلى الأعلى، فأين ستصل البصقة؟ سترجع عليه، فإذا أراد إنسانٌ أن يَبصقَ على نور الحقيقة فهل البُصاق يطفئ الحقيقة ويمحوها؟ لا، بل يَبصقُ على نفسِهِ.. اللهمَّ أرنا الحق حقاً -ولا يكفي ذلك- وارزقنا اتباعَهُ.
دعوة الله نبيَّه إلى ألّا يُعلّق قلبَه بالجاحدين
﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ [الذارّيّات:53-54] لا تُعلِّقْ قلبَكَ فيهم، ولا تحزَن عليهم، ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر:8]: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ يَعني قاتلٌ نفسَكَ ﴿عَلَى آَثَارِهِمْ﴾ وأنت تركضُ وراءَهُم لهدايتهم ﴿إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف:6] فمن رحمته يَكاد أن يَموتَ أسفاً، فكان الله يُعزّيه كما قال له هنا: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ ولا تُعلِّق قلبَكَ بهم.. إنّ غير الموفق لو يأتيه كلُّ أنبياء الدنيا وكلُّ كتُبِ السّماء لا يستفيد منهم، وهل إبليس يَنقُصه علم؟ أو يَنقصه ذكاء أو فَهم؟ لكن ينقصُهُ توفيق
لو كان بالعلم مِن دونِ التُّقَى شرفٌ
لكان أشرَفَ خَلْقِ الله إبليسُ
دعوة الله نبيّه لمواصلة العمل مع المؤمنين
قال: ﴿وَذَكِّرْ﴾ لكن عليك أن تواصِل عملَكَ، فمَن لا خير فيه لا تعلِّق قلبَكَ به، وإذا ذهبَ زاهدٌ فيبعَثَ الله لك ألف عاشقٍ، وإذا أعرض عنك معرض فيُقبِلُ عليكَ ألف مقبل، ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ [الروم:6] ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾ هل فقط الرسل؟ ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:51].
﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذارّيّات:55] ليس مؤمني اللسان، ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين)) ، فالذي يغتاب يُنادي على نفسه [يقول ويُصَرِّح عن نفسه في كل مكان] في النادي وعند الدّلال وفي الإذاعة والتلفزيون: أنا مؤمنُ اللسان كافرُ القلب.. هكذا قال النبيّ ﷺ، وما علامة المؤمن بلسانه وغير مؤمن بقلبه؟ الغيبة، وهل النميمة أخفّ ذنباً من الغيبة؟ والنمام هو الذي ينقل كلام فلان إلى فلان ويكون صادقًا، فإن شتم شخص شخصاً آخر، يأتيه ويقول: فلانٌ شتمَكَ.. أما الذي يَنقُلُ كلاماً كاذباً يكون ذا طبيعة خسيسة ونفسٍ لئيمة وعقول حقيرة، فيَكذِب وهو يَعلَمُ أنه يَكذِبُ، لأجل أن يُفرّق بين الأحبة، ولا يُسَرُّ إلا عندما يَرى الشقاءَ بين الناس والبغضاء والعداوة.. فالغيبة والنميمة وتَرْكُ الصّلاة وأكْلُ الحرام ومجالسُ اللغو عَمَلُ مَن آمَنَ بلسانه، وفاعلها ليس مؤمنَ القلب، لأنّ مؤمنَ القلب لا يُضيِّعُ مِن وقته مثقال دقيقة أو مثقال ثانية ويجعلها كلّها في طاعة الله.
العمر يمضي.. والحسابُ آتٍ
إنّ اليوم الذي يَذهب من الحياة والعمر لا يعود، والساعة التي تمرُّ لا تعود، والساعة التي تذهب فارغة.. تُعرَضُ عليك ساعاتُ حياتِكَ يوم القيامة، ((فإن مرَّتْ بك ساعةٌ لم تذكر الله فيها كانت عليك حسرة يوم القيامة)) ، هذا إذا ما ذكرتَ الله فيها، فكيف إذا عصيتَ الله فيها؟! فهل تتذكّر الموت والآخرة والوقوف بين يدي الله؟ وهل تتذكَّر الرقيبَ العتيد؟ هل تتذكر ﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [الإسراء:71]؟ وهل تتذكّر ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الذارايات:14]؟ وهل تتذكّرُ ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس:65]؟ هل آمنتَ بهذه الآيات؟ فعندما تُؤمِنُ بالسُّم أتشربُهُ؟ وعندما تُؤمِنُ أنَّ هذا شراب أتمتنِعُ عن شُربِه وتخاف من شربه؟ [يشير سماحة الشيخ إلى كأس أمامه] فالإيمان الحقيقيّ هو الذي يُثمِرُ العمل، وأمّا إيمانٌ بلا عمل فهو إيمان اللسان.. والذي يُعين على أن يَتحوّل إيمان اللّسان إلى إيمان القلب هو الصّحبة والهجرة والفرار.
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ إلى رسول الله ﷺ وإلى أحباب الله وإلى ورثة نبي الله، وبأدب الصحبة وأداء حقوق الصُّحبَة.. واللهِ ما هاجَرَ صادِقٌ إلى الله ورسوله إلا وحظِيَ بسعادة الدُّنيا والآخرة.
لا تقطعِ التذكير عن المؤمنين فإنها تنفَعُهم
ثمّ قال: ﴿فَإِنَّ الذِّكْرَى﴾ إذا كان هؤلاء أشقياء محرومين فلا تقطعِ الذِّكر والتّذكير عن الآخرين، فهناك أناسٌ مستعدُّون، فعندما يَنزِلُ المطرُ على النخل والعنب تصنُعُ منه الثّمرَ الحلو، وإذا نزلَت على الحنظل يزَداد مرارة، فهل على المطر أن يقف إذا صار الحنظل مرًّا؟ إن توقف سيجف العنب، ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود:105]، فهناك أناسٌ لو ما أتى النبيُّ ﷺ في زمانهم لربما كان خيراً لهم، لأنهم سيكونون من أهل الفترة ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الأسراء:15]، فرؤيتُهُم للنبيّ ﷺ ووجودهم في عصره كان سبباً في شقائهم وهلاكهم.. فنسأل الله أن يُوفِّقنا.
الإنس والجنّ مخلوقون للعبادة
ثمّ قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذارّيّات:56] فأنتَ مخلوقٌ للعبادة، والعبادة أن تكون له عبداً وله مملوكاً، فوقتُكَ له، ومالُكَ له، وعقلُكَ له، وتصرفاتُكَ كلّها له، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:162] ففي المثل: “العبد وما ملكت يداه لسيِّداه”، [هذا بالعامية، أما بالفصحى: “العبد وما ملكت يداه لسيِّدِه”]، والخلاصة نسأل الله أن يَجعلَنا عبيدَهُ في الرّضا والغضب، وفي الغنى والفقر، وفي العِزّ وفي القوة والضعف، أمّا إذا غضبتَ أتصيرُ إلهًا؟ وإذا أصبحت غنيًا أتصير إلهًا؟ وإذا أصبحت قويًا أتصير إلهًا؟ إذن فأنتَ الخاسِرُ، والدّنيا لا تدوم للملوك ولا للأغنياء ولا للأنبياء ولا للعلماء.. فنسأل الله أن يجعل خير أيامنا يوم لقائه.
كفى الله العبادَ أمرَ الرزقَ
قال: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذارّيّات:56-58] معنى ذلك لا تنهَمَّ بالرزق، وليكن همُّكَ بالله وأن تكون عبداً لله، واشتغل بالرزق وخذ بالأسباب، ولكن كما قال عليه الصّلاة والسّلام: ((لو توكلتُم على الله حقَّ التوكُّل، لرزقَكُم كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا)) تخرج من أوكارها فارغة البطون والمعدة ((وتروح بطاناً)) تعود في المساء بطاناً، لكنها لا تقعد؛ بل تغدو وتروح ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾.
عذاب الظالمين
ثمّ قال: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾ ما الذَّنوب؟ الدلو المليء والمقصود منه هنا الذين ظلموا، فوضعُوا الكفر مقام الإيمان، والمعصية موضع الطاعة، والفِسقَ موضِعَ التّقوى، قال: إنَّ لهم ذنوباً، يعني لهم نصيبٌ مِن العذاب كذَنوب أصحابهم؛ الأمم التي قبلهم ﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ [الذارّيّات:59] كانوا يقولون: متى هذا الوعد؟ ومتى سينزل العذاب؟ أرنا إن كنت صادقًا؟
ثم قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الذارّيّات:60] الهلاك والشّقاء والتّعاسة للكافر، ليس كافر اللسان فقط، بل كافر الأعمال والأخلاق والمعاملة والسلوك، ويل لهم ﴿مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ اليوم والساعة التي هيَّأها الله لمعاقبتهِم في الدنيا، فيوم فرعون متى كان؟ يومُهُ في الدنيا كان يومَ إغراقه، وقوم عاد متى كان يومُهُم؟ كان لَمَّا أرسَلَ الله عليهم ريحاً صرصراً عاتية، ويوم ثمود كان لَمَّا أرسَلَ عليهم صاعقةً من السماء، وقوم نوح متى كان يومهم؟ لَمَّا أغرَقهَم الله تعالى، هذا العذاب والوعيد في يوم الدّنيا، وهو غير يوم العذاب والوعيد في الآخرة، ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح:25] يعني: هل تحبون أن تَغْرَقوا وفوق ذلك تصيرون إلى النار؟ أو صاعقةً وبعدَها إلى جهنمُ أيضاً؟ يعني هل تحبون أن تصيروا إلى جهنم وتكونون في الذل والهوان؟ أو هل تريدون أن يَقلِبَ الله البلدَ فيكم ويجعَل أعلاه أسفلَهُ كقوم لوط؟ وكيف صار الصحابة رضي الله عنهم بطاعة الله وتقوى الله وعبوديتهم لله؟ ((ألم أجدكم عالةً فأغناكم الله بي وأعداءً فألف بين قلوبكم؟)) ، بلى يا رسول الله.. اللهم اجعَلنا مِن أهل القرآن علماً وعملاً وتعليماً ودعوةً بأقوالنا وأفعالنا وقلوبنا وكلّ طاقاتنا.