الفرق بين تعلم القرآن وبين تلاوته
فنحن لا نزال في تفسير سورة المدثر، ويجب على المسلم أن يتعلّم هذه السّورة وكذلك كلّ سور القرآن، يقول النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام: ((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)) .
هناك فرق بين تعلّم القرآن وبين تلاوة القرآن، فالتّلاوة: أن تقرأ كلمات القرآن بفهم أو بغير فهم، أمّا أن تتعلّم القرآن فيعني أن تتعلّم علوم القرآن وأهدافه ومقاصده، فحين يقبض الإنسان الكمبيالية [الشيك] ويعلم حقيقة الكمبيالية لا يفرح بتلاوتها ولا بخطوطها، فالذي يفرحه هو العلم بها وبثمراتها، فإذا اكتفى بتلاوتها ولم يستلم مضمونها بما تحويه فيقال عنه: بأنّ هذا العمل جنون، كذلك الكثير من المسلمين توجّهوا إلى القرآن تلاوةً أو حفظًا لكل القرآن عن ظهر قلبٍ، لكن من غير أن يتعلّموا علومه.
إذا عرفت الذّهب وحقيقته فماذا يقتضي العلم بالذّهب؟ أن تحرص على اكتسابه واقتنائه واستعماله في كلّ ما يحقّق سعادتك وضمان قضاء حوائجك، وإذا عرفت الثّعبان وعلمت حقيقته فما مقتضى هذا العلم؟ أن تجتنبه وتحذره وتبتعد عنه، كذلك قوله ﷺ: ((خيركم من تعلم القرآن))، فإذا عرفت علوم القرآن وأوامره فلتمتثلها وتطبّقها، وكذلك إن عرفت فضائل القرآن فلتتخلق بها وتزين بها حياتك ووجودك، وكذلك إذا عرفت محرمات القرآن أنّها خبيثةٌ ضارة مؤذية فلتجتنبها وتبتعد عنها.
فقه الصحابة للتبليغ
فالمسلمون في زمن رسول الله ﷺ في المدرسة الأولى هكذا كانوا يفهمون حديث: ((من تعلم القرآن))، ولذلك كان النَّبي ﷺ يقول: ((بلغوا عني ولو آيةً)) واحدة، فكان الوثنيّون- يعني عبدة الأصنام- حين يستمعون القرآن لا يقفون عند سماع الصوت واللفظ، بل كانوا يستمعون إلى المعنى والهدف والحقيقة؛ لذلك كان الهدف والحقيقة لتقتلع منهم التّخلّف والجهل والوثنيّة والعادات التي ورثوها عن آبائهم، التي توجب التّخلف والفقر والفوضى والحروب والعداوات واقتلاع العادات، ولذلك قيل: “ترك المألوف” الشّيء المعتاد الذي يألفه الإنسان “أشدّ من ضرب السّيوف”.
فلذلك كان الكفار يسمعون القرآن للفهم وللعلم وللعمل، فكان القرآن ينقد عقائدهم ويذم أصنامهم، فكانوا يفهمون فيغضبون لآلهتهم ويغضبون لعوائدهم [عاداتهم]، فحاربوا النَّبي ﷺ من أجل فهمهم للقرآن، ونجح المسلمون وانتصروا وهزموا الاستعمارين العالميين: الفارسي الشرقي، والصليبي الغربي، وكان ذلك في معركتين، وكانت معركة اليرموك- معركة الستة أيام- هي التي قضوا فيها على الاستعمار العالمي الغربي.. كانت معركة اليرموك لما كان العرب بالإسلام.
غيّر القرآن العرب بالعلم والحكمة والتزكية
والعرب بالإسلام؛ إسلام العلم وإسلام الحكمة وإسلام تزكية النفوس ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني القرآن ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ وهي الصّواب في القول، فحين تقول قولًا تقوله عن فكر وعن دراسة، حتَّى لا يقع كلامك في خطأ، وحين تريد أن تعمل فتعمل عن تفكير وتدبير وكلّ الاحتياطات، فلا يقع عملك إلّا صوابًا، والحكمة: هي الصّواب في القول والعمل.
﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129] يطهّر النّفوس من نقائصها ورذائل أخلاقها، فبعد الإسلام يعيش المسلم حتَّى موته فلا يكذب كذبة، ولا يغتاب أحدًا، ولا ينمّ على أحد، ولا يخون في قليل ولا كثير ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) ولو على الكلمة ((المجالس بالأمانة)) .
لمّا عزل سيِّدنا عمّر سيِّدنا خالدًا رضي الله عنهما، وهو قائد الجيوش، وفاتح بلاد الشّام، وفي أثناء معركة اليرموك، والجيش كلّه بيد خالد، والقوّة كلّها بيده؛ فلولا أنّ خالدًا تزكّت نفسه وارتقت إلى فضائلها وكمالاتها، لقام بانقلاب ورفض خلافة عمر وأصبح هو خليفة؛ لأنّ الجيش بيده، ولخرب التّاريخ الذي بناه الإسلام، حيث جعل العرب بالإسلام خير أمّة على الأرض كلّها ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ليس للعرب، بل ﴿لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110] هذا كلّه بعلوم القرآن.
لا تصل إلى أي علم إلّا بمعلمه
والعلوم؛ أي علم كان لا تصل إليه إلّا بمعلّمه، فعلوم الطّبّ تحتاج أساتذة كلية الطّبّ، والهندسة كذلك، أمّا الإسلام، فكلمة مسلم أعظم من لقب طبيب ومهندس وإمبراطور وملياردير؛ لأنّ كلمة مسلم تحوي كلّ هذه المعاني، فكان العرب على أميتهم لا يقرؤون ولا يكتبون، وليسوا أمةً؛ بل كانوا قبائل في الصحراء يتقاتلون على توافه الأمور، خرافيين أوهاميين، ففي عشرين سنة تظهر أعظم أمة علمًا وحكمةً وقوةً ووحدةً وأخلاقًا وربانيةً وانتصارًا وعالميًّا، وتتحدّى الاستعمارين العالميّين في وقت واحد.
بعث أبو بكر رضي الله عنه في وقت واحد بعد رسول الله ﷺ جيشًا إلى الاستعمار الفارسي الشرقي، وجيشًا إلى الاستعمار الروماني الغربي، وهذا على خلاف تكتيك أو استراتيجية الحروب، ففي السياسة تحارب عدوًّا واحدًا لتتفرغ للعدو الثاني، فما هو الإسلام العظيم الذي جعل من أبي بكر رضي الله عنه القائد العظيم والسياسي العظيم والناجح العظيم؟ صار كذلك انطلاقًا من علوم القرآن، ومن معلّم القرآن، فلا يكون علم بلا معلّم، ومعلّم ولا يعلِّم فوجوده كعدمه، ولذلك قال بعضهم
فمَن طلبَ العلومَ بغيرِ شيخٍ يضلُّ عن الصراطِ المستقيمِ
بغير شيخ: يعني بغير معلّم، إذا كنت تريد أن تصبح طبيبًا فهل تأخذ كتب الطّب وحدك فتصبح طبيبًا؟
أنت مسلم، فمن أين تعلمت الإسلام؟ من أمك وهي في المطبخ تحفر الكوسا وتلف ورق العنب؟ أم من زوجتك حين تستقبلك في المساء بما تستقبل الزوجة زوجها؟
“ومن طلب العلوم بغير شيخٍ” بغير معلم “يضل” يضيع، مثل السّيارة في الصّحراء إذا ضلّت عن الطّريق المعبد فتهلك “يضل عن الصراط المستقيم”
وتلتبسُ الأمورُ عليهِ حتَّى يصيرَ أضلَّ من تُوما الحكيمِ
“تلتبس” يعني تشتبه الأمور عليه.
يقال: بأنّ توما أراد أن يتعلّم الطب لكن من الكتب، فرأى في كتب الطب الحديث النبوي: ((الحبّة السوداء شفاء من كل داء)) ، وكانت الأحرف غير منقطة في ذلك الوقت، فقرأها: “الحية السوداء شفاء من كل داء”، أمّا لو أخذ الحديث من المعلّم فالمعلّم كيف يقرؤها؟ بنقطة أم نقطتين أم زيادة الخير خير؟ [“زيادة الخير خير”: مثل عامي، يقوله هنا سماحته ممازحاً] المعلم يقرؤها بنقطة واحدة، فذهب وأتى بثعبان حتَّى يُشفى من كل داء فأكله، والواقع أنه شُفِي من كل داء بعد أكل الثعبان، فلا تصيبه حمى ولا ألم رأس ولا كوليرا ولا إيدز، ولا تؤثر فيه نار بأن تحرق جلده، ولا يعضه حيوان، فلم يعد يرى ألماً أبداً؛ لأنّ الميت لم يعد فيه أمراض. [يقول سماحة الشيخ ذلك ممازحاً].
يجب الاقتداء بالمسلمين الأُول وطريقة تأثّرهم وتعلمهم للقرآن
فالشّاهد: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 129] علوم القرآن، فهل نقرأ سورة المدّثر لنعلَمها؟ ولنتعلّم منها؟ ولتحوّلنا كما تحوّل الوثنيّون الأميّون من وثنيّين جاهليّين أميّين إلى الشّهادة التي أعطاهم إياها النَّبي ﷺ عندما وصفهم بقوله: ((حكماء، علماء، فقهاء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) ؟ ما معنى النَّبي؟ النَّبي هو الذي يبني أمةً ناجحة، يبني أمةً راقية في عقولها وفي أخلاقها وفي حياتها، فماذا بنى نبينا مُحمَّد ﷺ؟ بنى الأمة العالمية والدّولة العالمية، بكم جامعة؟ وبكم كتاب؟ بكتاب واحد، وفي كم سنة؟ في عشرين سنة، فهل نال تلامذته الشهادة الابتدائية، أو الإعدادية أو الثانوية أو الحقوق؟ لا أعني ألّا نتعلّم العلوم، لا، لكن كانوا أميّين فكفاهم القرآن وحده، فكيف إذا كنّا متعلّمين مع القرآن، وكان القرآن مع الثّقافة؟ لذلك الآن في هذا العصر مهيّأ للمسلمين إذا فقهوا القرآن أن يكونوا أعظم من أسلافهم وآبائهم الذين مضوا، فلو كان في زمن رسول الله ﷺ تلفاز وأقمار صناعية وطباعة.. وإلخ، لوحد النَّبي ﷺ العالم في هذه العشرين سنة التي وحّد فيها العربَ وجعلهم أمّةً واحدةً ودولةً واحدةً وجيشًا واحدًا.
فبعد النَّبي ﷺ أتى أبو بكر رضي الله عنه، ما معنى كلمة بكر؟ البكر: هو الجمل الفتي، “الجاعود” [“الجاعود” كلمة عامية، تنطق الجيم هنا كالجيم المصرية، ومن الكنى المعروفة في دمشق “أبو جاعود” يكنى بها عادة بعض الناس العوام والأميين أو الجهلة والبسطاء جداً، وغالباً من يظن نفسه أنه قوي وزعيم في حارته]، فمعنى أبي بكر: أبو جاعود، فأبو جاعود ماذا عمل؟ [يعني: ماذا عمل هذا الرجل البسيط؟ ومع المعروف أن كلمة بكر لم تكن في ذاك الوقت تسخدم كما تستخدم كلمة “جاعود” في دمشق اليوم، لكن سماحة الشيخ يأتي بها للمقارنة بين الماضي والحاضر، ليوضح عظمة الإسلام الذي صنع من الناس البسيطين قواد العالم وعظماء التاريخ] جهز الجيش وأعلن الحرب على الاستعمار العالمي، ليس المهم أن تعلن الحرب، بل المهم أن تنتصر في الحرب، فهل أعلن وانتصر؟ وهل حقّق الأهداف في أقصر مدّة وبأقل كلفة؟ من أين أتى هذا؟ من العلم؛ علم القرآن، ومن المعلّم الأوّل الذي هو رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام.
لم يستطع أحد فعل ما فعله المعلم الأول مُحمَّد ﷺ
فهل استطاع كلّ فلاسفة اليونان وفلاسفة العالم في القديم وفي الحديث أن يعملوا كما عمل المعلم الأول وبكتاب الله هذا؟ فليس المهم في المصحف أن يكون تجليده جميلًا ومُذَهَّبًا ومنسقًا وفي علبة مذهبة؛ المهم أن تكون بعقلك وقلبك علبته، وأن يكون عقلُك وروحك معدتَه، فتهضمه ويتمثل فيك علمًا وحكمةً وتزكيةً وأخلاقًا، كما تمثّل عندما هضمه المسلمون الذين تربّوا في مدرسته وكان معلّمهم سيِّد ولد آدم سيِّدنا رسول الله ﷺ.
شمولية دين الإسلام
فهذه مقدمة، وندخل في الموضوع
عقب خروج النَّبي ﷺ من غار حراء.. أين كانت مدرسة النَّبي ﷺ حتَّى تخرج هذا الإنسان العالمي أرضيًّا وسماويًّا، دينيًّا ودنيويًّا، سياسيًّا وعسكريًّا، تجاريًّا وزراعيًّا؟ حين يقول في الزّراعة: ((إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة)) يعني نصبة شجرة صغيرة ((وفي يد أحدكم فسيلةٌ، واستطاع أن يغرسها فليغرسها)) قد قامت القيامة فمن أجل ماذا يزرعها؟ فعليكم أن تعتنوا بالزراعة ولو قامت القيامة، فالمقصود أن نبذل الجهد لنحوّل الصّحراء إلى جنان خضراء، هذا دين!
فحين تكون الزراعة دينًا، والصّناعة دينًا، وبخاصة الحربية، يقول النَّبي ﷺ: ((إن الله يُدخل بالسهم الواحد)) القوس النّشاب ((ثلاثة نفر الجنة)) يعني الرصاصة الواحدة في زماننا ((صانعه الذي يصنعه يبتغي منه الخير)) يصنع السلاح للخير، ليس للعدوان والاستعمار؛ بل لرد عدوان المعتدين ((والرامي به في سبيل الله)) ما هي سبيل الله؟ الجهاد في سبيل الله، سبيل الله هي: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 129].
هل كان جهاد الصّحابة والمسلمين الأول من أجل الاستعمار ونهب الأموال وإذلال الشعوب؟ كان هدفهم أن يعلِّموا الشّعوب القرآن، وعلوم القرآن، حتَّى يجعلوا من العالم أمةً واحدة وأخوةً واحدة، ويحقّقوا قوله ﷺ: ((ليس منّي إلّا عالم أو متعلّم)) ، فصنعوا العالَم إمّا عالِمًا أو متعلمًا.
((إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه الذي يصنعه يبتغي بصنعه الخير، والرامي به في سبيل)) هل سبيل الاستعمار والعدوان؟ لا بل ((في سبيل الله)) أي في سبيل نشر العلم والحكمة والتزكية، ولكلّ شعوب العالم رحمةً لهم، هذه سبيل الله.
((صانعه والرامي به والذي ينفق ماله في صنعه)) ، ما هذا الدّين؟ وما هذه التعاليم؟ ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ نصفه أن تكون حياة المؤمن به حسنة، أن تكون حياة المجتمع حسنة، وحياة الدولة حسنة، وحياة العالَم كله حسنة ﴿وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201].
خلوة النَّبيّ ﷺ في مدرسة حراء
فعقب خروج النبي ﷺ من مدرسة حراء، وما مدرسة حراء؟ هل واشنطن أم لندن أم جامعاتها؟ حراء غار- مغارة- صغير لا يتسع إلا لرجلين في أعلى جبل النور في منى، ومن أسفل الجبل إلى أعلاه يحتاج إلى صعود ساعة، فكان يخلو بالله عزَّ وجلَّ بكل أحاسيسه وقلبه وعقله وشعوره، حتَّى انجلت مرآة قلبه وتصفى من التعلق بغير خالق الكون، فظهر له جبريل الأمين على كرسي في السَّماء يخاطبه: ((يا مُحمَّد، أنت رسول الله وأنا جبريل)) ، بالإضافة لرؤيته في غار حراء وهو يقول له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1] فرجع، ومن صدمة رؤيته للملك جعل قلبه وجسمه يرجف ويقول: ((دثروني دثروني)) غطوني.
فأنزل الله عزَّ وجلَّ عليه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: 1] يشعر بالبرد من رؤية الملك، فعندما يرى الإنسان شيئًا بهذا الشّكل غير المألوف وتتكدر النّفس يتعرّق ويبرد.
﴿قُمْ﴾ فليس الآن وقت الاستلقاء في الفراش ﴿قُمْ﴾ [المدثر: 2]، ولم يقل له: “نم”.. كان الشَّيخ أمين الزّملكاني عندما يُنشَد له البيت
وإذا العنايةُ لاحظتْكَ عيونُها نمْ فالمخاوفُ كلُّهن أمانُ
يقول: يا بني الشاعر قد أخطأ، فيقال له: كيف؟ فيقول: يجب أن تقول: “وإذا العناية لاحظتك عيونها قم”، مع أنّ الشَّيخ أمين الزّملكاني لم يكن عالِماً، كان أميًّا، لكن قلبيًّا كان عالمًا بالله عزَّ وجلَّ، فقلبه في مدرسة الله: قم فالمخاوف كلهن أمان.
إذا كنت تريد اليسر يجب أن تدخل أولًا في مرحلة العسر
وهذا يلتقي مع قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 6] إذا كنت تريد أن تصل لليسر فعليك أن تدخل في مرحلة العسر أولًا، وإذا كنت تريد الوصول إلى الراحة فعليك أولًا أن تمر بمرحلة التعب ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ إنّ مع التعب راحةً، فالتّعب ماذا يثمر؟ الرّاحة، والرّاحة والكسل والخمول ماذا تثمر؟ التّعب، قال
نظرتُ في الراحةِ الكبرى فلم أرَها تُنالُ إلَّا على جسرٍ من التّعبِ
والجِدُّ منها بعيدٌ في تطلُّبِهِ فكيف تُدرَكُ بالأهواءِ واللعبِ؟
“والجد منها” إذا كان بالجد والهّمة فمع ذلك الرّاحة أمامه بعيدة “والجد منها بعيد في تطلبه” فإذا جَدَّيت وشمرت فلا تظن مطلوبك قريبًا تتناوله بكفك، بل تحتاج إلى ركض كثير [وجهد كثير] ووقت طويل على حسب مطلوبك إذا كان عظيمًا أو كان صغيرًا حقيرًا.
والجِدُّ منها بعيدٌ في تطلُّبِهِ فكيف تُدرَكُ- السعادة- بالأهواءِ واللعبِ؟
جبريل عليه السَّلام حمل رسالة العلم والحكمة والتزكية
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ المتغطّي بالغطاء واللحاف ﴿قُمْ﴾ صارت هناك نبوة، ورأى جبريل، ماذا يعني رأيت جبريل؟ فجبريل حامل رسالة لتبلغها للعالم كله، رسالة العلم والحكمة وتزكية النّفوس والإخاء والقضاء على الفقر ((كاد الفقر أن يكون كفرًا)) والكفر هو الجهل، ولينقل النَّاس من الظلمات؛ من ظلمات الجهل والفقر والفوضى إلى النّور.
﴿قُمْ﴾ لماذا؟ لإسعاد العالم وشعوبه، أنا وحدي؟ من أنا؟ وكان أميّاً بلا مدرسة ولا أستاذ، لكن ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282] إذا صار أحدٌ أستاذه الله عزَّ وجلَّ، ومدرسة الله عزَّ وجلَّ لا يُدخَل إليها بالجسد، يجب أن يُدخَل إليها بالعقل والقلب والرّوح والفكر، فإذا أدخلت عقلك وفكرك وقلبك وجعلت قلبك مع الله عزَّ وجلَّ جليسًا وعاشقًا ومحبًّا، فالله يقول: ((أنا جليس من ذكرني)) ، فالذي يجالس النَّار تسري فيه صفاتها من حرارةٍ وإحراق، وإذا اتصل يصير نارًا، فكذلك جليس الله عزَّ وجلَّ بعقله ليفهم كتابَه، وبقلبه إذا أدمن ذكره، وبصحبة أستاذ ربانيٍّ عالمٍ حكيمٍ مزكًّى ومزكٍّ، فتصير مسلمًا.
معنى الإسلام
ما معنى الإسلام حتَّى تأخذ لقب مسلم؟ الإسلام: هو الاستجابة لأوامر الله، والوقوف عند حدوده، والترفع عن محارمه، فإذا استجبت للواجبات فأدّيتها، وللمحرمّات فاجتنبتها، وللتحذيرات فوقفت عند حدودها ولم تخترقها، فعند ذلك أنت مسلم، يعني استجبت، وإذا لم تستجب فأنت غير مسلم، وإذا لم تستجب وادّعيت الإسلام فهذا اسمه نفاق ومن يفعل ذلك فهو منافق، وإذا لم تستجب وجحدت الإسلام وحاربته فأنت كافر، وإذا كنت تنتسب للإسلام فأنت مرتد، فليفتّش كلّ واحد منّا في نفسه: هل استجاب لله عزَّ وجلَّ؟ وهل تعلّم القرآن وعلومه من معلّمه؟ وهل تعلّم الحكمة من الحكماء حتَّى صار مصيباً في القول وفي العمل، فلا يقول قولًا إلّا وهو حقيقة واقعة، ولا يعمل عملًا إلا وهو ناجح ومصيب في كلّ الأمور، سواء في ذلك الشخصية والصغيرة والكبيرة، الخاصة والعامة، وفي الزّراعة والتّجارة والصناعة.. وإلى آخره؟
الحضّ على طلب العلم الدّيني والدّنيوي
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1-2] أنذر أولًا عشيرتك الأقربين، ثم بعدها قومك، ثم العالمين، قال تعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1] فبوَّأ الله عزَّ وجلَّ الأمة العربية أن تكون معلّمة الأمم، وقائدة الأمم، فلمّا تعلّمت القرآن وفقهته وهضمته وتمثّل فيها وفي أعمالها وفي فهمها وفي عقلها علمًا وعملًا، ففي آية: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201] فتحوا كلّ مكتبات الدّنيا وأخذوا كلّ ما فيها من علوم الحياة وعلوم الأرض وعلوم السَّماء، وما منعهم أنّها علوم يونانية أو هندية أو فارسية، فكانوا يحضّون على طلب علوم الدّنيا، علوم الحياة.. فكانت في عصر النبوة أرقى الأمم أمة الصين، لذلك قال ﷺ: ((اطلبوا العلم ولو في الصين)) ففي البلاد الأجنبية أي علم نتعلّم؟ هل علم القرآن وهل علوم الصَّلاة والصوم والحياة تتعلمها هناك؟ وهل يوجد أزهر في الصين؟ بل لنتعلم علوم الحياة.
المسلمون وصلوا إلى أمريكا قبل كولومبس
حارب المسلمون في العصور الأخيرة الحياة وعلومها وعلماءها وباسم الدّين، والطّامة الكبرى أن يصير مفهوم الإسلام أنّه عدو للعلوم وللتقدم وللحياة، حتَّى صار الإسلام ينفر منه أبناؤه، أنا أدركت أنه كان يوجد من المشايخ من يقول: تعلّم الجغرافيا حرام! مع أنّ الذي علم الأوربيين الجغرافيا هم المسلمون، قبل كريستوفر كولومبس، أليس هو الذي اكتشف من طريق علوم الجغرافيا أنّ الأرض كروية ليدور حولها؟ ففي كتب الجغرافيا يذكرون أنّ كولومبس قام برحلته واكتشف كروية الأرض واكتشف أمريكا.
أما قبل كولومبس فمن المسلمين من حاول ذلك وهو إمبراطور مالي الأفريقي الأسود المسلم، فكانت مالي ليست مثل مالي الاستعمارية الآن، كانت مالي أعظم دولة في أفريقيا، بنى أسطولًا مؤلفًا من مئتي مركب، وحمل معه جغرافيين لاكتشاف كروية الأرض، وذهب الأسطول ولم يرجع، فبنى أسطولًا آخر مكونًا أيضًا من مئتي مركب ذهب أيضًا ولم يعدْ، فرأيت في بعض الكتب الحديثة أنّ بعض القبائل في أمريكا الجنوبية يصومون رمضان، ولديهم بعض البقايا الإسلامية، وصيام رمضان ليس موجودًا إلّا عند المسلمين، فسألوهم: من أي مصدر صمتم رمضان؟ قالوا: كان آباؤنا يصومون فنحن نقلّدهم، ممّا يدل على أنهم وصلوا إلى أمريكا ووقفوا عندها، هذا كله من منطلق فهمهم للقرآن وفهمهم للإسلام.
الإنذار من العذاب والجهل والضلال
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1-2] ليس أن تنذرهم بالآخرة وجهنّم والعذاب، بل أنذرهم أيضًا من الجهل والتّخلّف والضّعف والعدو، وبالاستعداد لمجابهة كل هؤلاء الأعداء، وكذلك أنذرهم من المرض، فعندما يقول النَّبي ﷺ: ((تداوَوا عباد الله، فما خلق الله داء إلا خلق له دواءً)) ، هذا اسمه دين! يعني أنّ الطّبّ دين، والزّراعة دين، والوحدة دين، والقوّة دين، وكذلك اكتشاف الأرض والسَّماء، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ يعني: ادرسوا علم الحيوان ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ [الغاشية: 17-18] ادرسوا علم السماوات ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [يونس: 101] فالآن الشعوب المتقدمة هي التي تطبق قوله تعالى: ﴿انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ أمّا المسلمون خصوصًا المشايخ فماذا يفهمون من هذه الآية؟ ﴿انْظُرُوا﴾؟ نون ساكنة بعدها ظاء ما الحكم؟ إخفاء، ماذا يعني إخفاء؟ يعني لا تنطق بالنون، بل يجب أن تخفيها عند الظاء، هذا الذي فهمناه من الآية؟ يعني حكمًا تجويديًّا لتلاوة الألفاظ، أولئك نظروا في السّماوات من غير أمر سماوي ولا ديني، ونحن مع العلم السَّماوي والدّيني والعقل والدّماغ وخلايا المخ، ومخنا معطّل، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يبعث لنا مصلِّحَ عقول يصلح لنا عقولنا.
الإنذار من كل شيءٍ يشقي الإنسان من أمور الدنيا ومن أمور الآخرة
﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2] من كلّ شيءٍ يشقي الإنسان من أمور الدّنيا ومن أمور الآخرة، من أمور الجسد ومن أمور الرّوح، فحين يقول النَّبي ﷺ: ((ليس مني)) يعني: أنا بريء ((ليس مني إلا عالم أو متعلم)) أتظنّ أنّ المقصود من العلم علم الفقه: الوضوء والصَّلاة والاستبراء والاستنجاء؟ لا، فالعلم هو كلّ ما ينفعك وينفع النَّاس، هذا هو مفهوم العلم في الإسلام، فهذا يشمل ما يسمّى بالدّين وبالدّنيا، والدّين في الإسلام: هو كلّ ما يسعدك في جسدك وروحك، في دنياك وآخرتك.
لمّا تعلّم البدوُ العرب الأُوَل الأميّون القرآنَ على هذه القاعدة صاروا سادة العالم ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110] بشهادة القرآن، وبشهادة التّاريخ: “ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب” عرب الإسلام أم العرب من دون إسلام؟ عرب الإسلام.
﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ خلع النَّبي ﷺ دثاره ولحافه ورماه وقام، وبعد النَّبي ﷺ ألقى أبو بكر رضي الله عنه أيضًا دثاره ولحافه وقام لينذر، وبعد أبي بكر عمر رضي الله عنه وكذلك كل المسلمين، ونحن الآن إذا قرأناها فما علوم القرآن؟ فأنت يا مسلم ألا تقرأ القرآن؟ ألا تؤمن به؟ ما الإيمان به إذا لم تعمل به؟ فإذا آمنت بالسّمّ ثم اجترعته وشربته فهل أنت مؤمن؟ آمنت بلسانك وكفرت بعملك، فهل ينفعك هذا الإيمان أم يقتلك؟ فهل إيمان القول نافع أم قاتل؟ لا تكونوا كالذين قال الله عنهم: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: 41].
كيف تصير مؤمن القلب، إذا لم يكن لك المعلم ولم يكن لك المزكي والحكيم؛ لأنّ الإسلام علم وحكمةٌ وتزكيةٌ للنفوس، ثمّ عليك أن تنتقل من متعلّم إلى معلّم، من مزكَّى إلى مزكٍّ تطهّر النّفوس من عيوبها ونقائصها ورذائلها.
ليكنْ أعظم شيء في شعورك وفي إحساسك عظَمة الله عزَّ وجلَّ
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: 3] ليكنْ أعظم شيء في شعورك وفي إحساسك عظَمة الله عزَّ وجلَّ، وعظمة كتابه، وعظمة قانونه، وعظمة دستوره.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4] سواء الثّياب التي يلبسها البدن من ثياب تستر العورة أو تزيّن الجسم؛ أو ثياب النّفس من أخلاق وسلوك وصفات، فيجب عليك أن تكون طاهر ثوب الجسد وطاهر ثوب النّفس والرّوح.
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5] الرجز: العذاب، كلّ ما يؤدي إلى عذابك وشقائك في جسدك أو روحك، في نفسك أو أسرتك، في نفسك أو بلدك ووطنك، في نفسك والنَّاس كلهم.
﴿وَالرُّجْزَ﴾ ما الرجز؟ العذاب والشّقاء والتّعاسة، اهجرها واهجر أسبابها واهجر أصحابها.
فالحشّاش كيف صار حشاشًا؟ لأنّه صاحب الحشاشين، والسكّير كيف صار سكّيرًا؟ صاحب السكّيرين، وكذلك من يدخن.. كانوا يقولون عن السيجارة: إنّها بسيطة، لكن العلم الآن يقول: إنها من أكثر السّموم والمخرّبات للجسد، فمن أين دخن السّيجارة؟ من الصّاحب، لذلك يقولون: “المعلمون أربعة: المعلم” المربي الحكيم الإنسان وهذا الأول، “المعلم الثّاني: الكتاب”، إذا كان عندك كتاب في الفضائل فتتعلم منه الفضائل، وهكذا، “والمعلم الثالث: الصاحب والرفيق”، فقل لي من تصاحب ومن تسهر معه وتمشي معه وأنا أقول لك من أنت، “والمعلم الرابع: وهو أشد الأساتذة في تعليمه هو الزّمن”، ألا يقولون: الزّمن يربيه؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا، وأعظم من الكلّ الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282] امتثل أوامر الله سبحانه واجتنب نواهيه، ليس الأمر مجرد وضوء وصلاة وصوم رمضان، بل يجب أن تتعلّم القرآن جُملةً جملة وآيةً آية وكلمةً كلمة لتحوّلها إلى غذاء وشفاء لك، لا أن تضعه في فمك فقط، فعندما تأكل “أُوْزِي” [أوزي: أكلة من الأكلات الفاخرة في دمشق، تتكون بشكل أساس من اللحم والرز وتغطى بطبقة من العجين وتُخبَز في الفرن] أو من الخاروف المحشو [الخاروف المحشو أو “المـَحْشي”: من أكلات الأغنياء الفاخرة في دمشق، حيث يُطبَخ جسم الخروف كاملاً دون تقطيع، ويُحشَى بالرز والمكسرات ويُقدَّم على طبق كبير] فهل تضعه في فمك فقط أم تنزله إلى معدتك؟ حتَّى يمتص الجهاز الهضمي ما يتغذى به، ثم تحصل عملية الاستقلاب والتمثيل، فينقلب دمًا فطاقةً تغذي خلايا المخ والدم والعضلات.. أم تضعه بألفاظه في فمك فقط من غير أن تأكله ولا أن تمتص منه شيئًا، أو تدعه في الصحن وتنظر إليه وتقول: صينية أوزي صينية أوزي.. فلو قلتها مئة ألف مليون مرة وكنت جائعًا فهل يشبعك النطق بكلمة أوزي؟ وإذا أتت العروس وقلت: تزوجت، ولكن بقيت الزوجة في بيت أهلها فهل يأتيك الولد؟ فهل علينا أن يكون عندنا إسلام الحقيقة أم إسلام الجهل أم إسلام التمني أم إسلام الاسم؟
بأي وصف تصف وتنظر الأمم الغربية المتقدّمة في دنياها إلى المسلمين من إندونيسيا إلى المغرب الأقصى مراكش؟ كما هو معروف، أما لو كنا بمعنى الإسلام الحقيقي لكنا سادتهم.
الإقبال على الدخول في الإسلام
الآن يوجد بينكم هنا من أساتذة الجامعات الأمريكية، أتوا ليتدرّبوا على الإسلام ويرجعوا دعاةً إليه، ضمن مدّة مئة يوم، ويرسلوا الشّبّان الأمريكان إلى مجمع أبي النور ليتدرّبوا على الإسلام والدعوة إليه ويرجعوا إلى قومهم دعاةً مبشرين ومنذرين، وهذا الدكتور “مُحمَّد أسعد” أستاذ جامعي، ومعه الأستاذ “أسامة” مهندس، وسمعتم كلمته التي ألقاها قبل شهر وقال فيها: “كان المسلمون يأتون إلينا في أمريكا للتعلم، فنحن أبناء أمريكا بحاجة إلى أن نأتي إلى مجمع أبي النور لنتعلّم الإسلام، ونرجع لنعلم أبناء شعبنا الإسلام، لتُسلِم أمريكا”، وهذا أستاذ جامعة!
وأنا رأيت من أمريكا إلى اليابان، ورأيتم بأعينكم لمّا أتى أحد رؤساء الأديان الثلاثة إلى هنا، مع أركان طائفته بعد لقائي معه في اليابان في مؤتمر، كيف أتى إلى هنا؟ وبقي شهر رمضان هو وأركان طائفته صاموا وصلوا التّراويح، وذهبنا للعمرة والزّيارة معاً، نتيجة لقاء واحد في اليابان.
فإذا أتى الإسلام بالياباني من طوكيو إلى بلدنا ليكون تلميذًا ونحن أساتذته، فما هو هذا الدين؟ هل العبرة بالمرسيدس طراز خمس مئة أم بسائقها؟
السيف يحتاج إلى الساعد
يقال أن أحد الشجعان ضرب عدوه في المعركة فقطعه نصفين، فقال أحدهم: “ما أعظم هذا السيف!” فقال له: “لماذا لم تقل ما أعظم هذا الساعد؟” فالسيف وحده لا يكفي، كما أن الساعد من دون سيف لا يكفي، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجمع لنا السّاعد مع السيف، كما قال النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام: ((الإسلام والسلطان أخوان توءمان)) ، ما معنى أخوان توءمان؟ بعض الذين يسمّونهم إسلاميين يجعلونهما عدوين متقاتلين، فيجعلون الدين يعادي الدولة والدولة تعادي الدين، هذا خطأ، يجب أن يعانق الدّين الدّولة وتعانق الدّولة الدّين، ومتى أقبل أحدهما على الآخر فلا يهرب الآخر منه، فهل تهرب العروس إذا اقترب العريس منها واتجه نحوها؟ والعروس إذا أقبلت على العريس فهل يهرب؟ [من المعروف لغة أن عروس تطلق على الذكر والأنثى، لكنه في العامية السورية يقال عن الذكر عريس وعن الأنثى عروس].
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجمع كلمة المسلمين ويجمع النَّاس على كتاب ربّ العالمين، ويجعلنا مسلمين نتعلّم القرآن ونعلّمه، ولا تغرّنا الدنيا مهما أوتينا من شبابها وجمالها ومالها وجاهها، فلا تعرف متى تخسر جاهك ومالك وجسدك وحياتك وتصبح جثةً خامدة على خشب توضع في حفرة، وشخصيتك تصعد إلى عالم جديد، مستقبلك هناك على ضوء عملك وإيمانك في هذه الحياة، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ﴾ يعني خلقًا جديدًا ﴿فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ في عالم لا تعرفونه ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾ [الواقعة: 58-62] النّشأة الأولى ماذا؟ حيوان منوي لا تراه العيون، ثم صار هذا “بيك” وهذا وزيرًا وهذا مديرًا وهذا صار شيخًا وهذا مفتيًا.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا أن نكون مسلمي العلم والعمل والمعلّم، مسلمي الحكمة بالحكيم لنكون حكماء، ومسلمي التزكية بالمزكي لنتزكى ثم نزكي غيرنا، كما فعل آباؤنا المسلمون الأُوَل، زكّوا نصف شعوب العالم ووحدوهم عقيدةً وأخوةً وسياسةً وهدفًا وكلّ شيء.
كنت مرةً في الصين، وأنا في أحد شوارعها ومعي بعض المرافقين فرأيت صينيًّا من عرض الشارع يتجه نحوي، حتَّى صرت وإياه وجهًا لوجه، فخاطبني بلغة المستفهم والمبتسم قائلًا: الله أكبر، الله أكبر؟ ماذا يعني من هذه الكلمة؟ يعني هل أنت مسلم؟ قلت له: الله أكبر، مجرد ما نطقت عانقني وقبلني وصار يبكي ويتلو: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]!
فاغرورقت عيناي بالدموع وقلت: صلَّى الله عليك يا سيِّدي يا رسول الله، بعد خمسة عشر قرنًا، أي حزب أَلَّفه؟ وأي أمةٍ صنعها؟ وأي إنسانية أوجدها؟ حتَّى صاروا كالجسد الواحد، وبعد خمسة عشر قرنًا!
ففي الاتحاد السوفييتي حرقوا لهم المصاحف، وجعلوا المساجد خمّارات، ولم يدعوا شيئًا، فكانوا يعلمون أولادهم القرآن تحت السراديب وفي المغارات وفي الغابات، والآن لدينا وفد من مئة وثلاثين إمامًا وخطيبًا من الاتحاد السوفيتي نعمل لهم دورة مدتها ثلاثة أشهر، وأقمنا لهم دورة أخرى قبلها؛ لأنهم خلال سبعين سنة أصبحت معلوماتهم ضعيفة جدًّا، فأتوا ليستزيدوا، أتوا من الاتحاد السوفييتي، فكل مسجد سينقلب تقديسًا للأمة العربية، وتمجيدًا للأمة العربية، وتجعل البلادَ العربية مكةَ قِبلتَها، فهذا الدّين الذي يجعل للعرب هذه القدسية، فكيف يجب على العرب أن يقدّروه؟ لكن بحقيقته وجوهره، أمّا بالادعاء به والانتماء إليه كلامًا لا عملًا ((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل)) .
[لا يخفى على مطّلِع على تلك الحقبة “زمن إلقاء المحاضرة” أن شعار العروبة كان مرفوعاً عالياً عند السياسيين والأحزاب وعند كثير من الناس في بعض البلاد العربية وخاصة سوريا، وكان كثير من هؤلاء يفتخرون بقوميتهم العربية، لكنهم لا يعرفون شيئاً عن الإسلام، بل إن بعضهم كان يحارب الإسلام صراحة تمشياً مع نظام الشيوعية ومحاربة الأديان، لذلك كان سماحة الشيخ يبين لهم في دروسه العامة أن العرب لم يكونوا شيئاً يُذكر، وأنه لولا الإسلام لاندثرت العروبة وفني العرب من زمن بعيد، وأنه لولا الإسلام لما كان لكم وجود ولا قيمة، فلماذا تتنكرون للإسلام الذي هو مجدكم وعزكم؟]
هجر كل رجز
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5] فأنت يا مسلم لمّا قرأت هذه الآية فهل قمت فأنذرت؟ هذا خطاب، فإذا كنت ملكًا أو وزيرًا أو رئيس وزارة أو طبيبًا أو مديرًا أو عاملًا أو تاجرًا أو صانعًا [يقال للأجير في العامية السورية “صانع”] ﴿قُمْ﴾ لمّا نزلت الآية فكل مسلم قام فأنذر، وبذلوا في ذلك أرواحهم وأوقاتهم وأعمارهم وشبابهم وحياتهم.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ هل المال أكبر في قلبك أم ربّك ورضاه؟ وهل زوجتك أكبر أم ربك؟ وهل جاهك أكبر أم ربك؟
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ فثيابك من الخرق تطهرها وتنظفها، أمّا ثياب روحك؟ ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾ عوراتكم ﴿وَرِيشًا﴾ لستر العورة والزينة ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ للروح وللنفس في الأخلاق وفي العلم والحكمة ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: 26].
فثيابك هذه التي من القماش يمكن أن ينزعها أحد منك، لكن إذا لبست لباس العلم والحكمة والتقوى فهل يوجد من يستطيع أن يخلع منك العلم والتقوى والحكمة عندما تكون لباس الروح والعقل والنفس؟ فما أجمل أن يجعل الله عزَّ وجلَّ النوعين من الثياب طاهرين: ثياب الجسد، وثياب النفس!
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ فحين نقرؤها هل نهجر كل ما يسبّب عذابنا وشقاءنا في دنيانا وفي آخرتنا؟
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: 6] يعني لا تعمل عملًا إيجابيًّا صالحًا وتُعجَب به وترى نفسك صرت عظيمًا، مهما أعطاك الله من فضائل من علم وحكمة وقوّة فالعطاء يحتاج إلى شكر، فمهما شكرت وأطعت ربّك فلا ترى نفسك أنّك فعلت ما يجب، عليك أن ترى نفسك أنك ما زلت مقصرًا، أو لا تعطِ عطاء لأحد وتستكثره عليه أو تمن به عليه.
تعلم أن تكون قرآن العمل
فهذه الآيات يجب أن تعتبرها كتابةً مكتوبةً في صفحات نفسك عملًا، فإذا قرأت القرآن فهذا ((مَن تعلَّم القرآن))، فإذا تعلمته بهذا الأسلوب وصرت أنت قرآن العمل، فمن يرى عملك يقرأ فيك القرآن، فحين تقوم فتنذر فقد أحييت هذه الآية، وحين ترى ربك وأمره ورضاه أكبر من رضا أبيك ونفسك وزوجتك ومن رضا كل النَّاس تكون قد هضمت آية ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾، وإذا كنت تستحيي من طفل صغير أن تصنع أمامه شيئًا غير لائق ولا تستحيي من ربك الذي يعلم السر وأخفى، فهل كبَّرت ربك أم صغَّرته؟ كبَّرت الطفل الصغير وجعلت ربك أصغر من الطفل الصغير ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4].
تخاف من الذبابة إذا أردت أن تنام فتقول: أبعدوها.. وتبعدها بيديك وغير ذلك حتَّى لا تزعجك، ألا تخاف من رب العالمين؟ ألا تخاف من ﴿النَّار الَّتِي وَقُودُهَا النَّاس وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24]؟ أين ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 3-4]؟ هل طهرت ثوبيك الجسدي والروحي؟ عند ذلك تكون قد قرأت القرآن.
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ إذا عملت عملًا صالحًا فلا تقلْ: أنا عملت، بل قل: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي﴾ [النمل: 40] وإذا أعطيت عطاءً فلا تستكثره على الآخذ الفقير، بل قل: هذا بعض حقك عليَّ، وإذا أعطاك الله عزَّ وجلَّ علمًا فلا تتعالَ به على الجاهل.. إلى آخره.
تأتي المحكمة الإلهية بعد الإنذار
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ [المدثر: 8] فالآن أوامر وتبليغات، ولكنّها ليست أوامر وتبليغات وانتهى الأمر، بل وراء ذلك حساب، ووراء ذلك محكمة إلهية، ووراء ذلك أضابير وسجلات مسجَّل فيها كل أعمالك الكلامية ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] ولا تنظر نظرة ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾ [الإسراء: 36] بأن كان في قلبك غش أو حقد أو مكر لغيرك أو نية العدوان على الآخرين، ﴿إِنَّ السَّمْعَ﴾ فلا يصلح أن تسمع كلّ شيء ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55] اللغو: كل كلام لا ينفع ولا يضر، فإذا كان المتكلم يتكلم بالحرام بغيبة أو نميمة أو بما يحصل به أذى النَّاس، فهل آمنت بهذه الآية: ﴿إِنَّ السَّمْعَ﴾؟
ما معنى تعلّم القرآن الكريم؟
هذا تعلُّم القرآن، ما تعلُّم القرآن؟ هل يعني أن تنطق به؟ هل إذا نطقت بكلمة ملك وإمبراطور صرت إمبراطورًا؟ وإذا صرت إمبراطورًا وما نطقت أفضل أم أن تنطق بها ولا تصير إمبراطوراً وأنت زبال؟ [زَبّال: عامل تنظيفات] إذا قال الزَّبّال: أنا الإمبراطور وهو وراء عربة القمامة فهل يرفع هذا من شأنه؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من المؤمنين حقًّا.
كانت الهجرة إلى المعلم الذي يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فمن مكة إلى المدينة خمس مئة كيلومتر، كانت المرأة والطفل والمريض يهاجرون، يتركون أموالهم وأهلهم ومصالحهم وديونهم في سبيل الالتحاق بمدرسة القرآن ومعلم القرآن.
إذا لم تصغِ، بل سمعت القرآن النغمي، وقرآن الصوت الجميل “أوه آه إيه”، [“أوه آه إيه”: كناية عن النغم والطرب] فهل نزل القرآن لأجل هذا؟ كان الكفار يسمعونه ليفهموه، ولذلك كانوا يحاربون النَّبي ﷺ لأنه يريد أن يخرجهم من أخلاقهم الرديئة إلى الأخلاق الفاضلة، ومن جهلهم ومن مألوفهم وعاداتهم، ومما كان عليه آباؤهم، فالكفار كانوا يفهمونه، فكان يهاجمهم فيهاجمونه، وينتقدهم فينتقدونه.. مثل الذي يقرأ ولا يفهم؛ اسأل الجدار: ماذا فهمت من القرآن حين يُقرَأ في المذياع؟ واسأل السارية، واسأل الطاولة، واسأل هذا الذي سمع أو قرأ، إذا لم يكونوا كلهم سواء فأنا أكون لا أعرف شيئًا!
فهذا لا قرأ ولا استمع ولا أصغى، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحفظنا من أن يصل إلى درجة أنه لم يؤمن، فلو أن أحدهم شرح لك القرآن وفهمك إياه تمامًا ولم تؤمن به فما الفائدة؟
إن قيل لي: هذا مذياع، وجلست هناك وألقيت عليكم الدرس دون استخدامه، فما فائدة كلمته حين علمني أن هذا مذياع ما دمت لم أعمل به؟ وإذا قال له الطبيب: هذا هو الدواء.. لكنه لم يستعمله، فما الفائدة من كلام الطبيب ومن مجيء الطبيب؟
لذلك لا بد من المعلم، ومن المربي، المربي الحكيم المزكي حتَّى يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكينا، وإلّا يُخشى أن نموت، فمهما حصلنا من الدنيا واللهِ سنتركها كلها.
سأل النَّبي ﷺ أصحابه مرةً: ((أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ “قَالُوا: مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “اعْلَمُوا أَنْ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَمَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، مَالُكَ مَا قَدَّمْتَ، وَمَالُ وَارِثِكَ مَا أَخَّرْتَ)) . فنحن حريصون على أي النّوعين، الأول أم الثاني؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوقظنا من غفلتنا، ويعلّمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما يعلمنا، ويزيدنا علمًا.
حساب الآخرة
وإذا ما فعلنا.. فالآن أوامر ولك الخيار ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر: 37] لكنْ غدًا هناك حساب، والحساب: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ الناقور هو الصور، البوق الذي ينفخ فيه سيِّدنا إسرافيل عليه السَّلام، ينقر تلك النقرة فيعيد الله عزَّ وجلَّ الأجسام إلى ما كانت عليه، ويدخل فيها أرواحها، ثم يذهبون إلى الحساب، فما هو شكل الحساب ووضعك من الحساب؟
قال: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ [المدثر: 9] كيف عسير؟ هل هو عسير على كل النَّاس؟ قال: لا، هو ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ [المدثر: 10] يقول النَّبي ﷺ: ((يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر)) ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: 106] الذي وجهه أبيض لا يوجد له حساب، يقال له: “مع السَّلامة تفضل”، يركبونه في المروحية أو الطائرة أو في القطار [يجدر الانتباه أن سماحة الشيخ يتكلم بالعامية في كثير من الأحيان، وكلامه هنا عن المروحية والقطار لا يُؤخَذ بحرفيته، بل للتشبيه والتقريب إلى أذهان المستمعين] ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ﴾ [الزمر: 73] وطابت حياتكم الأبدية والتي هي بلا شيخوخة ولا أمراض ولا موت ولا إزعاج ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا﴾ [الواقعة: 25].
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ إذا دقت ساعة الحساب، هذا هو النقر، [ينقر سماحته بيده على كرسي التدريس الذي يجلس عليه، ويقول: هذا هو النقر] ألّا يقال دقّت؟ فهل نحن ممن عناهم النبي ﷺ بقوله: ((خيركم من تعلّم القرآن)) فعندما نقرؤه ونسمعه فهل نفهمه؟ وهل سنبقى أميّين؟ فبصناعتنا مثقّفون، وبطبّنا مثقّفون، وبتجارتنا مثقّفون، وبسياستنا مثقّفون، يا ترى بقرآننا وإسلامنا هل نحن مثقّفون؟ وإذا فاجأك الموت، فهل حدّد لك الموت مدة محددة أنك ستموت بعد عشرين سنة؟ فتقول حينها: ما زال الوقت مبكراً؟.. ألا يوجد شباب يموتون وبلا مرض سابق؟ ألا يموت الأطفال؟ وكذلك أطباء أخصائيون، قد يموت بالمرض الذي هو مختص به، فهل يستطيع علمه أن يدفع عنه؟ حسنًا، وهذا شيء لا بدّ منه، فكيف تستعدّ لما لا بدّ منه؟ هذا تعلّم القرآن.
يوم القيامة عسير على الكافرين
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ [المدثر: 8-9] فهل تحب أن تكون أيامك عسيرة؟ وأن يكون مستقبلك عسيرًا؟ وأن يكون مصيرك الأبدي عسيرًا؟ فإمّا أن تؤمن بالقرآن أو لا تؤمن، فإذا آمنت أنّ هذه ليرات ذهبية وأنت تسمع رنينها وتراها، وقلت لك: تفضل خذها، فماذا تكون رؤيتك وإيمانك بما أقول؟ تأخذها وتفتح جيبك أليس كذلك؟ ولو أنّك أعرضت وأخذتها ورميتها في النهر وقلتَ: أنا آمنت بقولك لكنّني رميتها في ضَياع؛ فأيهما أبلغ كفر العمل أم كفر القول؟ وأيهما أصح إيمان العمل أم إيمان القول؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مؤمني القول ومؤمني العمل، ويحمينا من كفر القول وكفر العمل.
﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ على من؟ ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾.
وصف الوليد بن المغيرة للقرآن
سبق معكم في الدرس الماضي عن الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد رضي الله عنه، أنّ الوليد بن المغيرة المخزومي سمع النَّبي ﷺ مرةً يصلي ويقرأ في سورة المؤمن، وكانت مكة كلها أوثان وأصنام وجاهلية، فشعر النَّبي ﷺ بأن الوليد يصغي إلى قراءته في صلاته، فصار النَّبي ﷺ يكرر الآيات، فلمّا انتهى النَّبي ﷺ من صلاته رجع الوليد إلى نادي قريش فقال: “لقد سمعت من مُحمَّد كلامًا ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة” شيء جميل وبهيّ “وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق” يعني رَيّان من السقاية “وإنه يعلو ولا يعلى عليه”.. بلغ هذا الوثني الكافر أنّه لما سمع بضع آيات أُخذ بها وهو من عظماء قريش غنًى وجاهًا وزعامة، ولما أحسن سماع القرآن كيف كان أثر القرآن فيه؟
فماذا سنتكلم عن أنفسنا؟ هل عبدة الأصنام أفضل منا في فهم القرآن؟ فهل قلوبنا ميتة أم لا نريد أن نفهم؟ أم سنعيش مليون سنة ونقول دوماً ما زال الوقت مبكرًا؟ نظن أنه لم يمض إلا عشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة وما زال أمامنا مليون سنة! فيا ترى هل هذا التقدير صحيح؟ متى سنتهيأ؟
اغتنمْ في الفراغِ فضلَ ركوعٍ فعسى أن يكونَ موتُكَ بغتهْ
كم صحيحٍ ماتَ قبلَ سقيمٍ ذهبَتْ نفسُه النفيسةُ فلتهْ
فلما سمع الوليد رجع إلى قريش وصار ينوّه بعظمة القرآن وجماله: يعلو ولا يعلى عليه، ولا تستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله، إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة.. فهل يتأثر المسلم لما يسمع القرآن مثل تأثر الوليد الوثني المشرك عبّاد الأحجار؟ إذًا قلوبهم أفضل من قلوبنا، مع إعلانهم بالكفر وادعائنا للإسلام، فهل سنبقى على هذا الحال حتَّى نلقى الله عزَّ وجلَّ؟ يا ترى متى نريد أن نتغير؟ نقول غدًا، وقد قال النَّبي ﷺ: ((هلك المسوفون)) .
فلمّا بلغ قريشًا تأثرُ الوليد بسماع بضع آيات قالوا: “صبأ الوليد، ولتصبأن قريش به”، لأنه كان من زعمائهم وأغنيائهم وكبار كبارهم، فقال لهم أبو جهل: “لا تهتموا أنا أتدبر أمره”، فأتى إليه وقال له: “بلغني أنك تذهب إلى بيت مُحمَّد وأبي بكر تستطعمهم ليطعموك من طعامهم”، تجعل نفسك ضيفًا عليهم، فأنت لا تذهب إليهم إلا ليطعموك، فاستفزّه حتَّى لعب بعقله، وقالوا له عن محمد أنّه “مجنون؟” قال: ليس مجنونًا، وقالوا: ساحر؟ قال: ليس بساحر، وقالوا: شاعر؟ فقال: ليس بشاعر، قالوا له: ما هو؟ فكّر وفكّر وفكّر وتغيّر.
جليس يسعدك وجليس يشقيك
اعتبروا يا بني! فجليس يقربك من الخير والسّعادة والجنة ومن الله عزَّ وجلَّ، وجليس واحد بجلسة واحدة تشقيك وترديك وتهلكك وتخسر فيها الدنيا والآخرة، لذلك قال الله عزَّ وجلَّ عن جلساء السّوء: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [النساء: 140]. جلسة وراء النَّبي ﷺ يستمع القرآن لكن يستمعه بعقله ليفهمه، أما إذا لم تسمع القرآن بعقلك ولا لتفهم فلن تستفيد شيئًا، فاستفزّه أبو جهل حتَّى قال له: ماذا تقول عن مُحمَّد؟ قال: ما هو إلا ساحر يُؤثر، والذي يرويه يفرّق به بين الوالد وولده والزوجة وزوجها والأخ وأخيه، فهذا سحر يؤثره عن أهل بابل [وغيرهم].
فأنزل الله عزَّ وجلَّ في شأن الوليد الضّال، فقد ضل بجلسة وكاد أن يسعد بجلسة، لكنّه ضلّ، فيجب أن تعرفوا قيمة من تجالسون وقيمة المجالس، مجالس السّعادة ومجالس الشّقاء، فمجلس تصير به من السّعداء ومجلس وجليس تصير به من الأشقياء، لذلك يقول الشّاعر
فصاحبْ تقيًّا عالمًا تنتفعْ به فصحبةُ أهلِ الخيرِ تُرجى وتُطلَبُ
وإيّاكَ والفسّاقَ لا تصحبنَّهم فقربُهُمُ يُعدي وهذا مجرَّبُ
كما قيلَ: طينٌ لاصقٌ أو مؤثِّرٌ كذا دودُ مرجٍ خُضرةً منه يَكْسِبُ
“طين لاصق”: إذا مشيت في أرض طينية فسيلتصق بالنّعل شيء.. ومن جالس فقد جانس.
ردّة الوليد بعد أن شهد بالحق
فلمّا ارتد هذه الردّة بعد إقباله ذلك القبول، أنزل الله عزَّ وجلَّ في شأنه: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ [المدثر: 11] كان الوليد بن المغيرة يتباهى بنفسه فيقول: أنا الوحيد ابن الوحيد مالًا وجاهًا ونفوذًا، وصار بعد درسه من أبي جهل يعادي الإسلام بكلّ الإمكانات، وكان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وحده، انظر كيف بدأ وحده، وبعدها صار الإسلام من إندونيسيا إلى مراكش، فأي مبدأ يستمر خمسة عشر قرنًا مع وجود حروب صليبية وتترية وتبشيرية، وماركسية وشيوعية وغيرها؟ والإسلام يغزو أمريكا والاتحاد السوفييتي والمشرق والمغرب.
والإسلام سيعود وسيعود وسيعود، لكنه إسلام القرآن، ليس إسلام هؤلاء الذين يسمّونهم أصوليّين، فهذا لا يقرّه الإسلام، والنَّبي ﷺ يقول: ((سيبلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار)) ، ويقول أيضًا: ((أسرع الأرض خرابًا يسراها))، يسراها أيّ أرض يعني بها؟ فهل عرف الصّحابة رضي الله عنهم الأرض اليسرى؟ هل كانوا يسمعون بالأرض اليسرى؟ هذا اليسار الماركسي فقد دخل الخراب فيه وبسرعة ((أسرع الأرض خرابًا يسراها، ثمّ يمناها)) . ذكر ضيفنا الدّكتور في محاضرته هنا في المسجد قبل شهر أنّ أمريكا مقبلة على الانهيار إن لم يتداركها الإسلام، وإذا أسلمت ونشرت الإسلام فيكون عند ذلك العالم السعيد والعصر السعيد، هؤلاء أساتذة الجامعات، ونحن أبناء المسلمين في مكة والمدينة وبغداد والعراق وغيرها، أين نحن؟ وإلى متى نبقى نياماً؟
مصير الكفار
فقال الله عزَّ وجلَّ لنبيه ﷺ: ﴿ذَرْنِي﴾ لا يهمّك الوليد، اتركني له فأنا أكفيكه ﴿وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ هذا الذي يقول: أنا الوحيد مالًا وجاهًا وعظمةً ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا﴾ [المدثر: 12] في كلّ بلد كان له ثروة من تجارة وبساتين ومواشي؛ في الطائف والحجاز.. ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ﴾ [المدثر: 12-13] كان له عشرة أولاد، وكلّ ولد من الأولاد من الذين يُشار إليهم بالبَنان ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾ [المدثر: 14] الجاه ممهد والمال والغنى والثروة والزراعة والمواشي وعلى حسب زمانهم ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾ [المدثر: 15] مثل ما ورد عن النَّبي ﷺ قال: ((منهومان- يعني جائعان- لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال)) ، ((ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)) .
هناك من يكفر عنادًا
﴿كَلَّا﴾ فبعد نزول هذه الآيات بدأت ثروته تذوب وتذوب وتذوب، حتَّى قتله الله عزَّ وجلَّ كافرًا.
﴿إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ [المدثر: 16] هل الله عزَّ وجلَّ يعانَد؟ ومعاندة الله بمعاندة نبي الله، ومعاندة رسالة الله ودينه وأحبابه وورثة رسول الله ﷺ الذين يقومون بالنيابة عنه ليعلّموا النَّاس الكتاب والحكمة ويعملون على التزكية.
﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ [المدثر: 17] سيحمل أعباء ومشقّات من العذاب في عالم الرّوح ما ترهقه وتهلكه، ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ [المدثر: 18] لمـّا رأوه مأخوذًا بالقرآن لعبوا بعقله، كما يقال: “عقلك في رأسك واثنان يديرونه”، [مثل عامي بمعنى أن لك عقل وهو في رأسك، ولكن عقلك ضعيف جداً، فبمجرد أن يكلمك شخصان تغيّر رأيك وقناعتك، فأنت لست ثابتاً وليس لك قرار] لذلك إذا أعاد الله عزَّ وجلَّ لك عقلك إلى رأسك فاحذر أن يسرقه منك أحد، ففي جلسة صار إلى الهداية أقرب ما يكون، وفي جلسة ثانية انتكس.
فبعد ما لعب بعقله أبو جهل وغيره، قالوا له: ماذا تقول في القرآن؟ أما زلت على رأيك الأول؟ فكّر وفكّر، ثمّ فكّر وفكّر، وصار بعقله يقدِّر ويقدّر ويقدّر ﴿فَقُتِلَ﴾ قاتله الله ﴿كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ﴾ قاتله الله ﴿كَيْفَ قَدَّرَ﴾ [المدثر: 19-20] بعدما قال: إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه يعلو ولا يعلى عليه، وليس بكلام الإنس.. كل ساعة برأي؛ ساعة عاقل وساعة غير عاقل، هذا الذي كلّ ساعة في قرار، لا يكون ابن آدم، ففي النهاية يخسر.
﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ بفكره، وأوحى له الشّيطان، فلمّا أوحى له ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ قطَّب ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ﴾ فرَّ عن الحق والحقيقة ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ لم ينقَدْ إلى ما قنع به أولًا ﴿فَقَالَ﴾ عن القرآن ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: 21-25] هذه النّكسة بعد العافية، فإذا لم تستمر العافية بالحمية والدّواء والبعد عن الجراثيم والأسباب الممرضة فقد يعود إليك المرض، وقد يعود بشكل أقسى وأقوى وأفتك، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفّقنا إذا عرفنا طريق الهدى والخير أن نستمر عليه، اللّهمّ أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، فيا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك.
بعد أن قال هناك: حلاوة وطلاوة وإن أعلاه لمثمر.. هل هناك حجة وبرهان ينفعانه؟ فبعد أن رأى الثوب أبيضاً يقول لك: أسود.. هذا لم يعد يفيده شيء، لذلك قال الله عزَّ وجلَّ في جوابه: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ يعني حَضِّر نفسك ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾ لا تبقي كافرًا إلّا سحبته والأغلال في عنقه، ولا تترك جاحدًا إلّا أردته ﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ تحرق الوجوه حتَّى تصير سوداء ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر: 26-30] الزبانية الذين يديرون جهنم، أليس لكل معمل إدارة؟ جهنم كم مدير لها؟ ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾، إلى آخر الآيات.
نقف هنا، وإذا أحيانا الله عزَّ وجلَّ إلى الأسبوع الثاني نكمل لكم تكملة السورة.
ضرورة نشر العلم
فالمقصود أن نقرأ القرآن للفهم والعمل، وإذا فهمناه وعَلِمناه فقط لا نكون قد أدينا الواجب حتَّى نعلِّمه غيرنا.. كلّ أطبائي ينتقدون أنّي قد أطلت حتَّى لا أتعب قلبي، لكن أقدّم لكم قلبي حبًّا فيكم ورجاء أن يعيد الله عز وجل للمسلمين عزّتهم، لأنّ العرب بأيّ شيء توحدوا وعزّوا وصاروا هُم العالم؟ كانوا في زمانهم أقوى من كلينتون في زماننا الحاضر، كيف كلينتون يدير الدّنيا، فالدّنيا المعهودة من كان يديرها؟ العرب، لكن بماذا؟ بإسلام العلم والعمل.
فالنَّبي ﷺ يقول وهو على منبره: ((ما بال أقوامٍ لا يعلّمون جيرانهم ولا يفقهونهم ولا يفطّنونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم ولا يتفقّهون ولا يتفطنّون؟)) ثمّ يقول: ((ليعلِّمنَّ قوم جيرانهم ويفقهُنَّهم ويفطنُنَّهم، وليتعلمَنَّ قوم من جيرانهم، أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدنيا)) ما معنى الحديث؟ يعني التعليم إجباري، ليس من قِبَل الدولة بل من قبل كل عالِم أن يعلِّم، فالذي تعلّمته علِّمه، قال النَّبي ﷺ: ((بلّغوا عني ولو آيةً)) إذا لم تعرف سوى آية واحدة فعلِّمها لغيرك، هذا طريق الضمان الاجتماعي التعليمي.
مرة كنت في عاصمة بَشْكِيرْيا في الاتحاد السوفييتي، مفتيها مفتي المسلمين في كل الاتحاد السوفييتي من سيبيريا إلى غرب روسيا، قلت له: باعتبارك مفتي سيبيريا ما دين شعوب سيبيريا؟ سمعت من الجواب ما أذهلني! ما مساحة سيبيريا؟ مساحتها تعادل قارتين، تعادل مساحة أوروبا أربع أو خمس مرات، ويجاوبني ويقول لي: ثمانون بالمئة من شعوب سيبيريا مسلمون! من أوصل إليهم الإسلام؟
على المسلم أن يداوم على سقاية إيمانه وإسلامه بالعلم والمعلم
فالشجرة إذا زرعتها وأورقت واخضرت وأزهرت وأثمرت، ثم قطعت سقايتها وتسميدها قد تحتمل سنة أو سنتين وبعد ذلك تصير حطبًا، كذلك المسلم إذا لم يداوم على سقاية إيمانه وإسلامه بالعلم والمعلم، والحكمة والحكيم، والتزكية والمزكي.. وإن شاء الله كما قال النَّبي ﷺ: ((سيبلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار))، ((وأسرع الأرض خرابًا يسراها ثم يمناها)).. وأنا متفائل، تذكرون ماذا كنت أقول لكم في سنة الثمانين عن الاتحاد السوفييتي والشيوعية؟ وهذا كله مسجَّل على أشرطة التسجيل، قلتُ لكم: انتظروا عشر سنوات وستنتهي الشيوعية، واللهِ هذا شيء وقع في قلبي، لا أعرف ماذا أقول؟ الآن واقع في قلبي أنّه في السنوات العشر الآتية سيعم الإسلام مشارق الأرض ومغاربها، وهذا ليس وحيًا لكنه إلهام رباني، وإن شاء ترون هذا.
والعالم الآن مُهَيأ، وهؤلاء المتطرفون أو الإرهابيون يشوّهون الإسلام ويعينون أعداء الإسلام على عرضه مشوهًا إرهابيًّا، هدانا الله وإياهم إذا كان ذلك عن خطأ، وإذا كانت قوى خفية تستعملهم من حيث لا يشعرون، كما قال الشّاعر
إذا كنتَ لا تدري فتلكَ مصيبةٌ وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
حديث عن الانتخابات
هل جرت الانتخابات؟ نعم.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُنجّح الصالحين المصلِحين الطيبين المتقين، اللهم وَلِّ أمورنا خيارنا ولا تول أمورنا شرارنا.. ويجب أن نهتم بكل شيء يتعلق بأمور الأمة، فهذه الانتخابات تمثل الأمة في شؤونها القانونية والعامة، فكل منا يدرس الوضع دراسة جيدة، وإن شاء الله يفوز الخيار وخيار الخيار، ولعل بعضهم معكم، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا وإياهم من الخيار والمختارين.