سورتي المزمل والمدثر من أوائل ما نزل على النَّبيّ ﷺ
فقد مضى معكم تفسير سورة ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: 1] ونبدأ الآن في تفسير سورة ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: 1] فنزلت مقدمتا السورتين في أول ما نزل على النَّبي ﷺ من الوحي عقب عكوفه واعتكافه في غار حراء، وهي مدرسة الأنبياء عليهم السَّلام: الخلوة مع الله عزَّ وجلَّ، والانقطاع عن الخلق ومشاغل الحياة بصدق التوجه والاستقبال الكلي بكلّ مشاعر الإنسان وتفكيره وأحاسيسه، فبكلّ هذه القوى يتوجّه إلى قبلة القلوب والأرواح ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ﴾ يعني خلق وأنشأ ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام: 79].
خلوة النَّبيّ ﷺ في غار حراء
فمن هذه المجالسة بطولها مع الله عزَّ وجلَّ لسيِّدنا مُحمَّد بن عبد الله ﷺ، وقد استغرقت قرابة خمس سنوات في رمضان وفي غير رمضان، فقد كان يخلو في غار حراء إعدادًا من الله عزَّ وجلَّ لروحانيته لتتناسب وتتوافق مع الملأ الأعلى، ومع عالم الروح، ومع عالم الحضرة الإلهية، حتَّى صفت روحه وتزكّت نفسه وانجلت مرآته، فظهر له روح القدس سيِّدنا جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام وهو في أفق السَّماء يخاطبه: ((يا مُحمَّد أنت رسول الله، وأنا روح القدس جبريل)) ، فخاف وارتعب.. مخلوقٌ يملأ الفضاء تارةً، وتارةً يجلس على كرسي، فصرف وجهه عنه إلى جهة أخرى فرآه في الجهة الأخرى، ثم صرف وجهه إلى الأمام فرآه في الأمام، ثم صرف وجهه إلى اليمين فرآه في يمينه، وهكذا إلى يساره، وهو يقول له: ((أنت رسول الله وأنا روح القدس جبريل)) فسقط من هيبة المنظر؛ لأنّه أول مرة يرى عالَم الملائكة، فرجع إلى بيته يرجف ويتعرّق ويقول: ((زملوني زملوني)) يعني غطوني من البرد، فمن اصطدام روحه بروح الملك انصرفت روحه عن تدبير أمر الجسد، فحصل لها برودة من اتجاه الرّوح إلى عالم الرّوح.
أمر الله لنبيه ﷺ بالتهجد
ثمّ نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ المتغطّي بالثياب والمتلفّف بها، ففي السورة الأولى ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ أمره الله عز وجل: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 1-2] قم الليل يعني للتهجّد، ولمجالسة الله عزَّ وجلَّ، يقول النَّبي ﷺ: ((الصَّلاة معراج المؤمن)) عروج وارتقاء وانصراف من عالم الجسد ومن عالم المادة ومن عالم الأسفل للتوجّه والعروج والارتقاء إلى الملأ الأعلى.
﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ قم الليل كله، فهذه مدرسة الأنبياء عليهم السَّلام، وهذه المدرسة الإلهية لا يدخل الجسد فيها، إنّما هي مدارس الأرواح، فإذا دخلت الرّوح وهي طاهرة ومزكاة وعطرة بمجاهدتها لرذائلها، حتَّى تنظّفت منها وتزكّت وتعطّرت بفضائلها ومكارم أخلاقها وعشقها لربّها ودوام مجالستها له بدوام ذكره، فتنجلي مرآة النّفس وينعكس فيها ما توجّهت إليه من عالم الرّوح ومن عالم القدس، ويُفاض عليها من العلم والحكمة على حسب استعدادها ما يحقّق لها سعادتها الجسدية والروحية.
كانت النبوة بعد الوصول إلى الصفاء الروحي
والسّعادة في الحقيقة هي للرّوح، فحين يأكل الإنسان أو يشرب يُسَرُّ، فهل السّرور لجلده أم لعظمه أم لدمه؟ لا، بل لنفسه وروحه التي تظهر في مرآة جسده.
فنبينا عليه الصَّلاة والسَّلام لمّا وصل إلى ذلك الصّفاء الكامل ظهر له عالَم الرّوح وروح القدس سفير الله إلى أنبيائه، ليصنع من هذه السّفارة ومن هذه الرّسالة الإنسان الفاضل والمدينة الفاضلة والأسرة الفاضلة والأمّة الفاضلة بل والعالَم الموحَّد الفاضل. فقام بحمل الرّسالة وحمل الأعباء، قام بقلبه وبروحه وبحكمته التي أكرمه الله عزَّ وجلَّ بها، وبعلومه الرّبّانية، وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب، ولا يوجد عنده معلّم ولا مدّرس.. فمَن علَّم الشّوك أن ينتج الورد الذي يُستخرَج منه عطر الورد؟ ومن أخرج من الحطب زهر الفل والرّيحان وهذه الألوان؟ ومن خلق من الحيوان المنوي والبويضة العلماءَ والحكماءَ؟ والإنسان يعجز أن يخلق خلية من خلايا الجسم سواء في الدم أو العظم أو المخ أو العضلات، وكذلك يعجز البشر كلهم بكل ما يملكون من تكنولوجيا وتقدّم عن أن يصنعوا برغشة أو نملةً أو بعوضةً.
فخالق هذا الوجود أراد أن يكرّم الإنسان، وأن يجعل تكريم الإنسان في الأمة العربية، ولم يبقَ آنذاك من الأمة العربية إلّا قبائل في الصحراء يتكلّمون لغة العرب، وكلّ قبيلة لها لهجتها، لذلك كان اختلاف القراءات من سبع إلى عشر إلى أربع عشرة قراءة، فهذه لهجات القبائل، وكانت المدن في بلاد الشام وغيرها تتكلم باليونانية والرومانية، فالقوميون العرب [اليوم]– بقطع النظر عن الدين- لولا القرآن لكانوا يتكلمون باليونانية أو بالرومانية، وبعد ذلك بالفرنسية أو البريطانية، فلا قومية ولا عروبة.
أثر القرآن على اللغة العربية
فمن الذي حفظ اللغة؟ ومن الذي حوّل القبائل إلى شعب موحّد وإلى أمة موحّدة وإلى أمة قومية؟ ليس قوميّتها اللغة والأرض؛ بل قومّيتها العلم والحكمة وتزكية النفوس بمكارم الأخلاق، قال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129] لا فرق بين أبيض أو أسود، أو من الشرق أو الغرب، بل الوحدة الإنسانية وحقوق الإنسان.. وجعل من الأمة العربية هيئة أمم، فإذا أحصينا العالَم الإسلامي نجد فيه أكثر من مئة لغة أو مئتين أو أقل، وكلّهم مهما مرّ عليهم من عقائد واضطهادات يقولون: “مُحمَّد رسول الله ﷺ”.
قصة عن غيرة السكير على الإسلام
في زمن الشّيوعية في الاتحاد السوفييتي، وهذه قصة ذكرتها مرةً لرئيسنا حافظ الأسد: اجتمع فئة من السّكارى- الذين يشربون الخمر- من أديان وجنسيات مختلفة، فلمّا لعبت الخمرة بهم وسكروا، قال أحدهم وهو نصراني: “يجب أن تشربوا نخب السيِّد المسيح!” يعني هذا تكريم للمسيح عليه السَّلام! فالسكارى يملؤون الكاسات ويضربون بعضها ببعض ويشربون الخمر تكريمًا لمن يريدون تكريمه، ففيهم سكير مسلم ثار عليه إسلامه فقال لهم: “يجب أن تشربوا نخب سيِّدنا مُحمَّد”، فملؤوا كؤوس الخمر وضربوها بعضها ببعض وكرموا سيِّدنا مُحمَّداً ﷺ بشرب الخمر! يعني وهو سكران وشيوعي لكنه لم ينسَ إيمانه.. ولعل الله عزَّ وجلَّ يغفر له ولو أنّ العمل غير صحيح لا شرعًا ولا عقلًا، لعل الله يغفر له بحبّه لرسول الله ﷺ.
كان نعيمان كثيرًا ما يؤتى به سكيرًا إلى رسول الله ﷺ فيقيم عليه الحد، فبعض الصحابة شتمه أو لعنه لتكرار شربه للخمر، فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام قال له: ((لا تشتمه، لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله)) .
الأمر للنبي ﷺ بالقيام لمجالسة ربه
﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ إنسان واحد، قال: ﴿قُمِ﴾ [المزمل: 1-2] لأي شيء؟ قال: قم لمجالسة الله عزَّ وجلَّ، ولتدخل مدرسة الله وليكون الله هو أستاذك الوحيد، ومن كان أستاذه خالق المجرّات والشّموس والأقمار والكواكب والكون الذي لا نهاية له من ذرّاته إلى مجرّاته، فماذا يكون خريج هذه المدرسة التي أستاذها خالق الأكوان وخالق كلّ شيء في هذا الوجود؟
﴿اقْرَأْ﴾، وبعد ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق: 1] أنزل عليه آية ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: 1] النّون هي الدّواة ﴿وَالْقَلَمِ﴾ للكتابة ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ الورق المكتوب عليه، فأول كلمة تنزل بالوحي السّماوي: ﴿اقْرَأْ﴾ وفي ثاني سورة: القسم واليمين بالنّون وبالقلم وبالكتابة، فدين أول أبجديته وحروفه الكتابية: القراءة وأدوات العلم والقراءة، وذلك في أول الوحي، ثمّ كان يقول: ((إنما بُعِثت معلمًا)) ولأنّ العلم وحده لا يكفي؛ لأنّ العلم جناح للطائر، إذا لم يُضَف إليه الجناح الثّاني وهو مكارم الأخلاق وتهذيب النفس، فالطّائر بجناح واحد يسقط فتأكله القطط والكلاب، فالأمم التي تسمّى متقدّمة متعلّمة مع كلّ تقدمها المادي نجدها تتقاتل، فراوندا نتأسف على اقتتالهم، ونقول: “هؤلاء متخلفون غير متعلمين”، فما بال أوروبا وأمريكا في الحربين العالميتين الأولى والثانية قد قتلوا الملايين وعشرات الملايين من الشّعوب المتعلّمة المتقدّمة؟ فالإنسان لا يصير إنسانيًّا إلّا بالتّربية السَّماويّة الحقيقيّة التي تجمع العلم بكلّ أقسامه.
العلم هو الذي ينفعك وينفع النَّاس
ما العلم؟ قال: هو ما ينفعك وينفع النَّاس، سواء في العالم الروحي أو النفسي أو الجسدي أو الحياتي، والحكمة: العقل الناضج، الذي إذا قال لا يقول إلّا صوابًا، وإذا عمل لا يعمل إلّا صوابًا، ويفعل ما ينبغي من واجبات في الوقت الذي ينبغي، على الشكل الذي ينبغي، “ففعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الشكل الذي ينبغي” هذه هي الحكمة، والحكمة أيضاً: معرفة ارتباط المسبَّبات بالأسباب، فالعلم في كلّ ما ينفعك في روحك أو جسدك، في أرضك أو سمائك، مع الحكمة والأخلاق.
فهل وصلت الإنسانية أو الشعوب المتقدمة إلى رسالة الإسلام التي هي: العلم بما ينفعك أيها الإنسان، والحكمة التي هي الصواب في القول والعمل، وأداء الواجب في الوقت والشكل الذي ينبغي، وتزكية النفس من رذائلها وأنانياتها وظلمها وقسوة قلبها وبخلها وعدوانها؟ ولا يزال الإنسان متخلفًا، وصارت بيده وسائل العدوان والفتك، فلا يزال القوي يظلم الضعيف، ويعتدي الكبير على الصغير، فلا يبرّئه أنه استعمل الحديد وطار به أو غاص في البحار، وهو لا يزال بصفات الوحش كما يعتدي الذئب على الغنم، ويعتدي النمر على الغزال.
أمّا الإسلام فجعل الإنسان أخا الإنسان أحب أم كره، كما ورد: ((الإنسان أخو الإنسان، أحب أم كره)) كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام بعد كلّ صلاة في كل يوم، يعني في كل يوم خمس مرات يقول: ((اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد بأنك أنت الإله وحدك لا شريك لك)) ربنا ورب كل شيء في هذا الوجود ((وأن مُحمَّداً عبدك)) قبل ((رسولك)) حتَّى لا ينسب أحد له الألوهية من شدّة الحبّ والمغالاة، قال: ((عبدك)) أولًا ((ورسولك)) ثانيًا ((وأنا شهيد أن عبادك كلهم إخوة)) ، يعني النَّاس على اختلاف ألوانهم وأفكارهم وعقائدهم؛ أن النَّاس كلهم إخوة.
الخلاصة: سنضيع لكم التفسير بالاستطراد.
استعداد للحصول على الكمال الإنساني
﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: 1- 2] فهذه المدرسة الأولى لإعداد الإنسان ليكون الإنسان الفاضل العالِم الحكيم المزكَّى ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ أيضًا ﴿قُمْ﴾ ففي السّورتين هناك قيام، الأولى: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2] هذا استعداد لتحوز على كمالك الإنساني علمًا وعقلانيةً وأخلاقًا، فإذا استكملت القيام الأول يتوجب عليك واجب القيام الثاني: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1-2] قم فعلِّم الآخرين تبشيرًا وإنذارًا، حين يحلّ وباء الكوليرا ماذا تكون مهمّة الطبيب في التّعليم؟ أن ينذر النَّاس من المياه المتّسخة، أليس كذلك؟ يقول للنّاس: احذروا المياه المتّسخة، وإذا حدث مرض الإيدز يقول: احذروا الاتصال الجنسي غير المشروع؛ لأنه باب إلى الموت وبأشد ما يكون من العذاب، فالموت بالرصاص بلحظة أو خمس دقائق ينتهي وكذلك بالذبح، أمّا الموت بالإيدز فقد يبقى سنوات وسنوات، يتمنى أن يُرجَم بالأحجار لأنّه نصف ساعة ويموت، لكنّه بالإيدز يُرجَم بكلّ الأمراض ولا يموت حتَّى يموت أشنع ميتة.
فقال للنَّبي ﷺ: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: 2]، فلماذا قام النبي ﷺ؟ هل للرقص أو للتلفاز أو للهو والعبث؟ لا، بل قم مع ربك، وجالس ربك، فمن يجالس الثلج لا بد أن يأخذ من صفاته من البرودة والصقيع، وإذا طالت الجلسة يتجمد ويصير مثلجًا لكن لا يصير ثلجًا، فيأخذ من علم الله عزَّ وجلَّ على قدر صفائه وسعة عقله وسعة روحانيته لإعداده للقيام الثّاني ليكون معلمًا، فالقيام الأول ليتعلّم؛ وليصير عالِماً، أمّا القيام الثّاني فليقوم معلّمًا مرشدًا نافعًا للنّاس، يعلِّمهم كلّ ما يعلمه ممَّا ينفعهم في أمور حياتهم الجسدية والروحانية، وبلا مقابل.
إجبارية التعليم في الإسلام
لمّا كان الإسلام مزدهرًا كان التّعلّم إجباريًّا دينيًّا في كلّ العلوم، ليس العلوم الدّينية فقط التي هي العبادات وتوابعها، لا، بل كلّ العلوم: فالطّب علمٌ تعلُّمه فرض، والزراعة علم تعلمها فرض، وكذلك الفلك والفيزياء والكيمياء، قال ﷺ: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) ومسلمة، والمعلّم يجب عليه أن يعلِّم مجانًا، فالتّعليم إجباري على المتعلّم وعلى المعلّم، وكان يبين أنه ليس شرطًا أن تصير عالمًاً كبيرًا حتَّى تعلِّم، فلو تعلّمت شيئًا يسيرًا فعلِّمه لمن لا يعلمه، فكان النَّبي الكريم ﷺ يقول في هذا الموضوع: ((بلغوا عني ولو آيةً)) آية واحدة.
ومهما ضاق الوقت، فلو كان لا يوجد معك وقت إلّا خمس دقائق ويمكن أن تعلِّم واحدًا فلا تضيع هذه الدّقائق الخمس، يقول في هذا الموضوع: ((إذا قامت القيامة، وفي يد أحدكم فسيلة)) الفسيلة هي نصبة الشّجرة الصّغيرة عندما يغرسونها، ((إذا قامت القيامة)) ونُسِفت الجبال وصارت ﴿كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة: 5]، و﴿يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ [عبس: 34- 35] قال: لكن إذا كانت في يدك نصبة، فإذا قامت القيامة، وليس إذا اقترب قيام القيامة، لا، بل قامت وخربت الدنيا وانتهت، ((وفي يد أحدكم فسيلة، واستطاع أن يغرسها فليغرسها!)) .
أي تعليم هذا التّعليم؟ هذا تعليم السَّماء، هذا التعليم الرباني، هذا الذي جعل من القبائل المتناحرة المتقاتلة لعشرات السّنين والجائعة الفقيرة والتي لا كيان لها، جعل منها أُمَّة العالَم وهيئة الأمم، وذلك لمّا قرؤوا القرآن وفهموه وهم مهيؤون له، فمتى يُبذَر البذار في الأرض؟ قبل الحرث أو بعد الحرث؟ فإذا كانت الأرض مملوءة عشبًا فهل يمكن أن يُلقى فيها البذار؟ تحتاج إلى حراثة، ثمّ تنقية، ثمّ إعداد، ثمّ إلقاء البذار.
قدّم الإنذار على التبشير
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1-2] وقدم الإنذار على التبشير؛ لأن الطبيب في وقت انتشار الكوليرا ماذا يقول للناس؟ هل يقول لهم: اتقوا الكوليرا حتَّى تعيشوا بسلام أو بأمان أو بصحة؟ بل يقول لهم: احذروا، فإذا أصابتكم الكوليرا ستصابون بالإسهال والقيء، وخلال أربع وعشرين ساعة تكونون في الآخرة.. فيقدّم الإنذار على التبشير، والسّلب على الإيجاب. فإذا كان الطّريق مخوفًا فماذا يقولون لصاحب السّيارة؟ أصلحها؛ لأنّ الطّريق وعر، فهناك أحجار ووديان وغير ذلك، “فمن خاف أَمِن، ومن أَمِن خاف”، فالذي يخاف من الانقطاع في الصحراء يصلح سيارته فيأمن في السفر، والذي يأمن ولا يفكر بمشكلات الصحراء فهو الذي ينقطع فيكون هلاكه.
﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: 2-3] لا ترَى في هذا الوجود محبوبًا أعظم لك من ربّك، ليكن ربك أعظم محبوب لك، عليك ألا ترى شيئًا تخافه وتخاف سطوته أكثر من ربك، ولا ترى أحدًا تطلب العطاء منه أكثر من ربك، ولا ترى عالِمـاً أكبر من ربك، فإذا استولت عظَمة الله عزَّ وجلَّ على القلب ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 65] ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا﴾ [الأنبياء: 79] الحكمة ﴿وَعِلْمًا﴾ فالأنبياء عليهم السَّلام من أين أخذوا علومهم؟ لا من الكتب ولا من المدارس.
حال الإنسان إذا دخل مدرسة الله عزَّ وجلَّ
من علَّم البصل أن ينبت الزنبق؟ في أيّ كليّة تقنيّة تعلَّم البصل إنبات هذا الزّهر الجميل بالرّائحة المنعشة؟ فالإنسان إذا دخل مدرسة الله عزَّ وجلَّ يكون أعظم من بصل الزنبق، لأن بصل الزنبق تعلَّم في مدرسة الله عزَّ وجلَّ أن يصنع هذا الورد، فإنّ الإنسان إذا دخل مدرسة الله عزَّ وجلَّ بقلبه وروحه وذكر الله بمدرسة أحباب الله وبالارتباط الكلي القلبي والروحي، وارتباط الحب في الله، فهذه المدرسة تخرّج أعظم من بصل الزّنبق، فهذا ينبت زهرًا يذبل في أربع وعشرين ساعة ويُلقى في القمامة، أمّا بصلة قلبك إذا تغذت وسُقِيت بذكر الله ومحبته وصحبة أحبابه؛ فينبت في قلبك زنبقاً لا يذبل إلى أبد الآبدين، وتطلع شمس في قلبك لا تأفل إلى أبد الآبدين، ويُزرَع في قلبك علم لا يُنسى ولا يُمحى، وسعادةٌ إلى أبد الآبدين.
الرحمة والنفع من الله
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ لا تنشغل بعظمة ما رأيت من الملَك وهو في السَّماء ويملأ السَّماء وما إلى ذلك بل ﴿قُمْ﴾ ضع هذا المنظر جانباً، و﴿قُمْ﴾ لتَحَمُّل الرسالة وأعبائها، ولإيجاد العالَم، ليس إيجاد قوميّة متقدّمة، فالله عزَّ وجلَّ ليس قوميًّا، فإذا كان عربيًّا لتعصب للعرب، وإذا كان تركيًّا لتعصب للأتراك، وإذا كان فرنسيًّا لتعصب للفرنسيين؛ فالله عزَّ وجلَّ خالق الكون ((الخلق كلهم عيال الله)) إذًا هو ربّ الأسرة، وإذا كان ((كلهم)) فلا يشمل الإنسان أبيضه وأسوده وشرقيه وغربيه فقط، بل الإنسان والحيوان والنّبات، ((وأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله)) ، كلّما كنت تستطيع أن تنفع النَّاس والحيوان والنّبات أكثر فأنت إلى الله أحبّ.
ويقول أيضًا سيِّدنا مُحمَّد ﷺ: ((الرّاحمون)) بمن؟ لم يعين، الرحمة العامة ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض)) لم يقل ارحموا المسلمين أو العرب أو اليهود أو النصارى أو الأتراك؛ بل قال: ((من في الأرض)) يعني كلّ الإنسان، يقولون: “حقوق الإنسان”! إذا لم تكن حقوق الإنسان عقيدةً دينيةً تخالط روحك وعقلك وشعورك، فإنهم يستعملونها لأغراضهم الاستعمارية، ولأغراضهم العدوانية، وحين يكون لهم مصلحة يدّعون حقوق الإنسان! ففي البوسنة والهرسك لا يوجد حقوق الإنسان، سنتان أو ثلاث سنوات تُقتَل النساء والأطفال والعجز وغير ذلك، وتضيّيع للوقت.. وإلخ، لماذا؟ لأنّهم يعملون بلا إيمان، والقاعدة عندهم المصلحة، فيؤمنون بالمصلحة ولا يؤمنون بالأخلاق، فلا تدفعهم في أعمالهم إلّا مصلحتهم، أمّا الإيمان.. فيدفع المؤمن إلى عمله إيمانُه في معتقده، فكان إيمانه في معتقده: ((الخلق كلهم عيال الله))، ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))، حتَّى الحيوان كان عليه الصَّلاة والسَّلام يأمر بالرفق به، فيقول: ((اتقوا الله في هذه البهائم العجماء)) التي لا تنطق، فإذا جاعت لا تقول: أنا جوعى، وإذا عطشت لا تقول: أنا عطشى، وإذا كان حملها ثقيلًا لا تقول: حملتني حملًا ثقيلًا فكسرت لي ظهري! عجماء لا تستطيع التكلم ((اتقوا الله)) أهذه حقوق الإنسان أم حقوق الحيوان؟ ((في هذه البهائم العجماء، كُلُوها صالحة)) إذا كنت تستعملها للأكل فسمِّنها واعتنِ بها ((واركبوها)) وإذا كانت للرّكوب أيضًا تكون قوية ((واركبوها صالحة)) ثمّ يقول: ((فرب مركوبةٍ)) إذا كنت راكبًا حمارًا فمن المركوب؟ الحمار، ومن الراكب؟ الذي على ظهره، قال: ((فرب مركوبة خير من راكبها!)) قد يكون الحمار أفضل ممن يركبه ((وأكثر ذكرًا لله منه)) ، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].
أصحاب الهمم يكونون دائمًا طائفة من المجتمع
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1-2] أو ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2] هل هذا خاص بالنَّبي ﷺ؟ لا؛ لأنّه في آخر السّورة قال: ﴿وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل: 20] أيضًا ليس كلهم، أصحاب الهمم يكونون دائمًا طائفة من المجتمع وليسوا كلّ المجتمع، فكانوا يقومون ثلث الليل مع الله عزَّ وجلَّ، وكان النَّبي ﷺ لا يسهر بعد صلاة العشاء، متى ما صلَّى مباشرةً يذهب إلى النوم، فهذه الطائفة قامت معه، فلمّا قامت معه كانت أيضًا في القيام الثاني ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2] فقاموا لنشر الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله عزَّ وجلَّ، وبذلوا أرواحهم وتركوا أوطانهم وفارقوا نساءهم وأطفالهم وزراعتهم، لماذا؟ هل ليستولوا على أموال النَّاس أو ليستعمروا الشعوب ويذلوها أو ليجهِّلوها وينشروا فيها الفساد؟ لا؛ قاموا في سبيل الله، ما سبيل الله؟ سبيل الله عزَّ وجلَّ: هو أن يعلِّموا النَّاس الكتاب والحكمة ويزكّوا نفوسهم، وليحقّقوا الإخاء بين الإنسان والإنسان، لذلك الآن إذا اجتمع الفرنسي المسيحي بإيطالي مسيحي فهل يشعر أحدهما بتآخٍ مع رفيقه؟ لا يشعر بالتآخي، أما المسلم فإلى الآن من إندونيسيا إذا اجتمع بالصيني أو بالهندي أو بالأفريقي يشعر ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، قومية واحدة، ليس رفيقًا، [رفيق: كلمة يقولها عادة أعضاء الحزب السياسي الواحد لبعضهم في سوريا] فالرفيق يمشي معه عشر خطوات وبعدها يقول له: “مع السَّلامة” [وداعاً]، أما الأخ فإذا وقعتَ في مشكلة فماذا تقول؟ “يا أخ، آخ”، [أَخْ أو آخْ: حرف صوتي خاصة في اللهجة السورية يقال عندما يشعر الإنسان بألم أو يقع في مصيبة] فبذلوا الأرواح فيما يسمى بالجهاد.
غاية الجهاد
ما غاية الجهاد؟ وما هدفه؟ وما الدافع إليه؟ لتعميم الثقافة والعلم والعقلانية والأخلاق الملائكية في العالَم كله.. كنت في سنة تسعة وثمانين في الصين، وأنا في أحد شوارعها ومعي بعض المرافقين رأيت صينيًّا يتجه نحوي في عُرْض الشّارع، فلما صرت وإياه وجهًا لوجه خاطبني بلهجته الصينية، بلهجة السّائل المستفهم قائلًا: الله أكبر؟ ما مقصوده من الكلمة؟ يعني: هل أنت مسلم؟ لأنّه لا يعرف أن يقول: هل أنت مسلم؟ قال لي: الله أكبر؟ فأجبته وهززت برأسي: الله أكبر، فبمجرد ما سمع هذه الكلمة مني عانقني وصار يبكي ويتلو الآية القرآنية قائلًا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]!
فما هذا النَّبي العظيم! بعد خمسة عشر قرنًا والإسلام في منتهى الضّعف في النفوس، لم ينسَ الصيني الأخوّة الإسلامية مع كل من يقول: الله أكبر.
الهدف من الإنذار رضا الله عزَّ وجلَّ وتنفيذ واجباته
﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: 2-3] لا يكنْ لك هدف من الإنذار أكبر من رضاء الله عزَّ وجلَّ وتنفيذ واجباته، لا يكنْ هدفك المادة ولا الجاه ولا المصلحة ولا المنفعة ولا الغنائم. ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4] أن تكون دائمًا نظيف الثياب والبدن.. وتُطلق الثياب أيضًا على الصفات والأخلاق، كذلك يجب أن تكون نظيف النفس والأخلاق والمقْصِد.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ فلا تلبس ثوب المعصية، كان العرب إذا أتوا إلى الحج، يخلعون كل ثيابهم ويستعيرون ثيابًا من أهل مكة، ويقولون: “لا نطوف بثياب عصينا الله بها”، ولعل الإحرام يشير من خلال بعض الأهداف والإشارات إلى هذا المعنى، أن تخلع ثيابك، يعني اخلع ثياب نفسك أيضًا، واخلع المعاصي، واخلع ما يخزيك ويرديك ويهلكك ويؤخرك، وارتدِ ثيابًا وصحائف بيضاء نقيةً طاهرة، ليس على جسدك فقط، بل في عقلك حكمةً، وفي قلبك ربانيةً، وفي نفسك أخلاقًا وتزكيةً، عند ذلك تكون محرمًا بالحج، وتكون قد فقهت فقه الحج.
الثياب زينة
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4] ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن الثياب النفسية والثياب البدنية، فعن الثّياب البدنية قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا﴾ [الأعراف: 26] خلقنا لكم ما تصنعون منه ثيابكم ﴿يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا﴾ شيئًا لستر العورة وشيئًا للزينة تتزينون بها، يعني خلق الثياب للزينة، فهل حرم الله عزَّ وجلَّ الزينة؟ لا، قال: خلقت لكم من الثّياب ما تتزينون به، يعني تزيّنوا بثيابكم ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ [الأعراف: 31] ليس استروا عورتكم، بل ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾.
لذلك كان النَّبي ﷺ يأمر في صلاة الجمعة أن يلبس الإنسان الأبيض من ثيابه، ويغسل بدنه، ويقصّ أظافره والزّائد من شعره، ويتطيّب ليأتي إلى صلاة الجمعة، وكان يقول في ميدان النظافة: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالطيب والسواك)) تنظيف الفم، لم يكن عندهم في ذلك الوقت إلّا عود الأراك، أمّا الآن فصار هناك أشياء كثيرة ومعقِّمة ومنظِّفة.. إلخ ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم)) يعني أمر فرض وواجب كالصلوات الخمس ((بالسواك عند كل صلاة)) .
فإذا كنت عند كل صلاة تتوضأ، وعند كل صلاة تطهِّر فمك، وعند كل صلاةٍ تتعطر؛ فهذا من الدّين، فالنظافة وجمال الثوب ونظافة الفم والرّائحة الطيبة من الدّين، لماذا أنتم اليوم وهو يوم جمعة لا تلبسون الأبيض؟ [يخاطب الشيخ تلامذته الحضور] وكان يقول: ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم)) مع أن المياه في الحجاز قليلة، مع ذلك يجب عليه كل يوم أن يتوضأ، يعني يغسل أطرافه المعرَّضة للأوساخ: يديه ووجهه وأنفه وأذنيه ورجليه، كم مرة؟ هذا دين! وبمعنى آخر ما اسمه؟ النّظافة، ويقول: ((النظافة من الإيمان)) ، هذه نظافة الجسد.
نظافة النفس من المساوئ
أما نظافة النفس من رذائلها ومعايبها ونقائصها، فقال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا﴾ يعني لأجسادكم ﴿يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾ يعني عوراتكم ﴿وَرِيشًا﴾ قال: هذه ثياب الجسد، وأمّا ثياب الروح والنفس فقال: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: 26] أيهما أفضل؟ أن تكون عُريانًا من الثياب البدنية أو تكون عريانًا من ثياب التّقوى؟ فثياب التّقوى: الصّدق، فإذا تعرّيت منه صرت كذابًا، فهل الكذب سَوءة وعورة أم جمال وزينة؟ والأمانة زينة، فالإنسان الأمين جميل في نظر كلّ النَّاس، أمّا الخائن فهو قبيح في نظر كلّ النَّاس، وكذلك الوفي بالوعد والرّحيم والعادل والمنصف، فالأخلاق الفاضلة كلّها زينة ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾.
فالإسلام حسب الحقيقة صنع الإنسان الفاضل الكامل، ثمّ انتقل منه إلى صناعة الأسرة والعائلة ثمّ إلى المجتمع ثمّ إلى الشّعب ثمّ إلى العالَم، على أساس أنّ هذا دين وعقيدة! ضمن العلم بما ينفعك وينفع النَّاس، وضمن الحكمة والعقلانية والأسباب والمسبّبات، فهل تحقّق هيئة الأمم الآن العلم والعقلانية ومكارم الأخلاق؟ فمجلس الأمن كم يُستعمَل لعدوان الأقوياء على الضّعفاء! أليس كذلك؟ فالشّعوب الغنية هل ترحم الشعوب الفقيرة فتعلِّمها ما ينفعها، وتمدّها بأموالها الفائضة؟ فالإسلام يأمر بتعليم العالِم للجاهل، ومساعدة الغني للفقير، والعدل، فيُؤخَذ لأضعف الضعفاء حقّه من أقوى الأقوياء.
العدل وأداء الحق
كان النَّبي ﷺ يقول: ((لو أن فاطمة بنت مُحمَّد سرقت لقطعت يدها)) . كان مرّةً يسوّي الصّفوف بالقضيب، فضرب أحد الصحابة المتقدمين بالقضيب لتسوية الصّف، وضَرْبُ تسوية الصف كيف يكون؟ بشكل إشارة، فالمضروب قال: “يا رسول الله، إنّ الله بعثك بالعدل والحق، وأنت ضربتني”، كان يكفي أن تقول لي: تأخر، لماذا ضربتني؟ فأطلب منك القصاص: النّفس بالنفس، والضربة بالضربة، فقال له النَّبي ﷺ: تفضل، هذا القضيب اضربني كما ضربتك .. فلو أنّ شرطياً صفعك بغير حق وطلبت منه القَوَد [القصاص] فهل يعطيك خدَّه لتضربه؟ أو كان الضارب رفيقك أو قريبك أو صاحبك، فإذا تعديت وكنت معتديًا فباسم الإسلام يجب أن تعطيه حقه.
رأى النَّبي ﷺ عنزتين تنتطحان، فقال لأصحابه: ((هل تدرون فيمَ انتطحتا))؟ قالوا: لا، قال: ((أما الله فإنه يدري فيمَ انتطحتا، وسيحاسبهما يوم القيامة ويقتص للمظلوم من الظالم)) ، وهما عنزتان!
ورد في الأثر أنّه أتى صحابي إلى النَّبي ﷺ فقال: “يا رسول الله، إن لي مملوكَين” عبدين “يخونانني ويسرقانني ويَكْذِبانني” سارقان وكاذبان وخائنان “وأنا أضربهم وأشتمهم، فما هو حالي وحالهم عند الله في محكمته يوم القيامة؟” هذا البدوي في مدرسة الله عزَّ وجلَّ، مدرسة السَّماء، انظروا إلى ثقافته كيف تحول من إنسان وحش إلى هذا الإنسان؟ فقال له المعلم ﷺ: ((يوزن يوم القيامة خيانتهم لك وسرقتهم لك وكذبهم عليك في كفة، وضربك إياهم وشتيمتك لهم في كفةٍ أخرى، فإن كانت خيانتهم وسرقتهم أكثر مما عاقبتهم)) فيستحقون أكثر ((يكون لك الفضل عليهم، وإن ضربتهم وعاقبتهم أكثر من جنايتهم اقتُص لهم منك)) سيأخذون حقهم منك، لأنك عاقبتهم بأكثر مما يستحقون.
فبوجود النّفوس المؤمنة لا تحتاج الدّولة لشرطة، ولا تحتاج لسجون ولا لقضاة ومحاكم، فصار الرّجل يقول: ((وا ويلاه وا ويلاه!)) يُقتَص لهم من حسناتك وتوضع سيئاتهم عليك، فقال له: ((لمَ؟ لماذا تصرخ؟ أما قرأت قول الله تعالى في القرآن: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء: 47]؟)) فمحكمة الله عزَّ وجلَّ ليست موازينها بمكيالين أو خمسين مكيالًا، ففي العراق شكل، وفي البوسنة والهرسك شكل آخر، في المكان الذي فيه نفط وهناك مصلحة يدّعون حقوق الإنسان، والذي لا يوجد فيه نفط ولا مصلحة، لسان حالهم يقول: ليهلك النَّاس كلهم، ولتبقَ يا مجلس الأمن!
((فإن زاد لك عليهم تأخذ من حسناتهم، وإن زاد لهم عليك أخذوا من حسناتك فقال له: يا رسول الله، اشهد علي، قد أعتقتهم وهما أحرار لوجه الله)) لا أريد أن يحاسبوني ولا أحاسبهم، لا يزيد لهم عليّ ولا يزيد لي عندهم!
فهل مدارسنا وجامعاتنا من أمريكا إلى اليابان وهذه الثقافة المعاصرة تنتج مثل هذا الإنسان، وهو أعرابي صحراوي في البادية؟ أين التّقدّم؟ التّقدّم بأي شيء؟ إنه التّقدّم بعضلات الظالم القوي على المظلوم الضعيف، هذا هو التقدم! وهو استغلال العلم للاستيلاء على الضعفاء وعلى ثرواتهم ولتمزيق الأمم والشّعوب مِزَقًا شتى، حتَّى يتمكن الأقوياء من تحقيق أهدافهم في الضّعفاء، فلا صلاح للإنسان إلّا بدستور خالق الإنسان، الذي هو ربّ الأسرة، كما قال النَّبي ﷺ: ((الخلق كلهم عيال الله)) .
هجر المعاصي والمساوئ
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: 1-3] لا يكنْ هناك شيء أعظم أملًا أو طاعةً أو خوفًا أو توجهًا في قلبك من توجّهك إلى ربّك وطاعتك وحبّك له.
﴿وَثِيَابَكَ﴾ [المدثر: 4] سواء الثياب البدنية تكون نظيفة، أو ثياب النّفس: الأخلاق والإيمان، فتكون أخلاقك طاهرة وروحك طاهرة.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ﴾ [المدثر: 4-5] الرّجز: العذاب الذي ينشأ عن المعصية، يعني: اهجر الأعمال والمعاصي التي تسبب لك العذاب في الدنيا والآخرة.
إذا شرب الإنسان الخمر، وقد أُثبِت الآن علميًّا أنّ الخمر من السموم، وقد حرمها الإسلام، [والمسلم لا يشرب] ليس لأنها سموم، بل لأن الله عزَّ وجلَّ أمر بالتحريم، والآن بعد خمسة عشر قرنًا انكشف للعلم سر التحريم.
وقد حرم الإسلام المخدرات، والآن انكشف أنّ المخدرات سموم، وقد حرّم الإسلام الزّنى- الجنس غير الشرعي- لماذا؟ لأنّ فيه ضياع الأنساب، وقد ظهرت اليوم أمراض، وأيّ أمراض! فمن أجل لذة دقيقة سيتحمل الموت سنيناً ويموت شرّ ميتة، وأرحم شيء به وأحسن دواء له هو الموت.
ففي عشرين سنة صنع الدّين أمةً قادت شعوب العالم نحو العلم والحكمة والأخلاق، وصنعت منهم الأسرة الواحدة والجسد الواحد، كما قال ﷺ: ((المسلمون في توادّهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى)) .
لا تتعاظم في نفسك وتمن على من أعطيته
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: 6] يعني إذا أعطيت عطاءً سواء ماديًّا أو علميًّا فلا تتعاظم في نفسك وتمنّ على من أعطيته أو ساعدته بالمنّ والأذى بلسانك أو في نفسك، فأنت قد أدّيت واجبًا عليك، فإذا صليت الظهر فهل تمنّ على الإمام أنّك صليت الظهر أو تمن على الآخرين؟ كذلك مهما قدمت من عطية أو منّة على أي إنسان فلا تستكثرها لا في نفسك ولا تبطلها بالمنّ والأذى، سواء كان ذلك العطاء ماديًّا أو معنويًّا أو علميًّا، فلا ترَ نفسك إلّا أنّك أدّيت واجبًا، وعليك الواجب الأكبر بأن تفعل أكثر ممّا فعلت.
الصّبر على أداء الواجب في الدّعوة
﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [المدثر: 7] ما دمت ستقوم وتنذر وتبلّغ وترشد وتربّي فستعترضك النّفوس الضّالة المضِلّة، شياطين الإنس الذين لا يريدون الصّلاح والإصلاح للمجتمع، فيقومون بتشويه سمعتك ويؤذونك بالقول والعمل ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48] نحن مشرفون عليك فلا تخفْ.. فما دمتَ يا رب مشرفًا فلماذا تدعهم يؤذون النَّبي ﷺ؟ لأن وجودنا على هذا الكوكب، وقانون هذا الكوكب: أنّ الأمور لا تكون في ساعة واحدة، فالولد لا يولد ليلة العرس بل يستغرق تسعة أشهر، والقمح لا يُحصَد يوم بذاره بل يستغرق ستة أشهر، فكذلك العلم والإيمان والدّين: ليس بمجرد أن تقول يستجيب النَّاس لك، هناك النفوس الفاسقة والنفوس المجرمة والنفوس الناقصة والنفوس المؤذية الشيطانية، هذا قانون الوجود.. فيجب أن تصبر، فإنّك بأعيننا ونحن معك ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [الحج: 40].
حكم قيام الليل
فهذه الآيات كان خطابها الأول موجهًا للنَّبي ﷺ، وبعد النَّبي ﷺ فهذا الخطاب موجّه لكلّ مسلم ومسلمة، فكلّ مسلم مأمور: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ بعد ذلك قاموا الليل ﴿نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2-3] ولم يكن لديهم ساعات يضبطون بها الوقت، فكانوا يقومون اللّيل كلّه في الصَّلاة والتهجد، حتَّى اصفرت وجوههم وانتفخت أقدامهم، وتسبب ضعف في القلب، فلا يكتمل الدوران الدموي حسب النظام.
فبعد سنة نزلت الرخصة: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى﴾ فالمريض لا يستطيع قيام الليل ﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فهذه الآية نزلت في المدينة ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فالمرضى قال: يُسمَح لهم إذا لم يقوموا الليل، وإذا سافر في الأرض متاجرًا مسافرًا تعبًا فقد لا تساعده أعماله على قيام الليل، قال: ﴿فَاقْرَءُوا﴾ يعني صلّوا ﴿مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمل: 20].
﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ﴾ ذكر الأعمال التجارية قبل الأعمال الجهادية، والصّحة والمرض قبل الاثنتين، هذا من باب: ((إنّ الدين يسرٌ، ولن يشادّ الدّين أحد إلّا غلبه، فيسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفروا)) .
فإذًا هذه السورة موجّهة لكلّ واحد منا، بألّا نتدثر باللّحاف وننام طوال الليل مع الشخير، لا، ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْه﴾ بعد ذلك ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2] فهذا ليس للنبي ﷺ فقط، حسنًا، فلمّا ذهب النَّبي ﷺ، ألم يقم الصحابة رضي الله عنهم فأنذروا؟ أما تركوا أوطانهم وعيالهم وتجارتهم وباعوا أنفسهم في سبيل الله عزَّ وجلَّ؟ هل ليجمعوا المال؟ لا، وهل ليعتدوا على الضعفاء؟ لا، وهل ليفسدوا الأخلاق في الأرض وينشروا الإلحاد؟ لا، بل ليحقّقوا الإنسانيّة السّعيدة.
حَكَم الصحابة العالَم بثقافة القرآن
وقد استطاعوا بصدق تربيتهم وثقافتهم القرآنية في أقل من قرن أن يوحّدوا نصف العالم القديم، وضعوا عَلَمَ الإسلام، يعني عَلَم العِلْم والحكمة والتزكية على بكين، أين تقع بكين؟ هل في الغوطة؟ بكين عاصمة الصين، وعلى حدود فرنسا، كم دولة من الصّين إلى حدود فرنسا؟ دولة واحدة، وكم أمّة؟ أمة واحدة، أمّا عن حرية المعتقد، فما أكره الإسلام طائفةً على أن تترك دينها وتعتنق الإسلام؛ لأنّ الإكراه في الدين محرّم في الإسلام، وفيه حرية المعتقد، وحرية الفكر العقلاني، والضّمان الاجتماعي لكلّ الشّعوب على اختلاف عقائدها ودينها.
مما أعطى خالد بن الوليد للنصارى في الحيرة
لمّا فتح سيِّدنا خالد رضي الله عنه الحيرة في العراق، وكان فيها نصارى، وكان من جملة شروط معاهدة الصلح: أنّ النصراني إذا عجز عن أداء ديونه فبيت مال المسلمين مكلّف بأداء ديونه! فهل تعامل أمريكا أو فرنسا أو ألمانيا أو إنكلترا مواطنيها هذه المعاملة؟ أمّا الدولة الإسلامية فعاملت النّصارى هذه المعاملة، وإذا لم يجد النصراني عملًا فالدّولة مكلفة بالإنفاق عليه وعلى أسرته.. في أمريكا يعطونه من حاجته خمسين أو ستين بالمئة- لا أعرف- أما أن يعطوه كل حاجته فلا، أما في الإسلام فيجب أن يعطى كل حاجته عند فقده لعمله.
نظام الزكاة وتوزيعها
نظام الزكاة وتوزيعها حسب المذهب الشافعي يُعطى الفقير من مال الزكاة كفاية العمر الغالب، فالآن كم تعطي الدولة الموظف؟ كفاية كم؟ كفاية شهر، أليس كذلك؟ فهل تعطيه كفاية سنة؟ راتب سنة؟ أمّا في الإسلام: فالفقير إن كان ذا حرفةٍ بأن كان سائق سيارة، أو نجارًا فيعطى آلة حرفته، تُشترى له سيارة ويُملَّكها، وإن كان مزارعاً فيعطى أرضًا يُملَّكها بما تقوم غلتها بكفايته، فالنجار والحدّاد والصّيدلاني، تعطيه محلًّا ورأس مال وتفتح له محلًّا، هذا من الزّكاة، وهذا من القانون الإسلامي.
يعطى النصراني ما أقام في بلد الإسلام، أما إذا خرج إلى بلد غير الإسلام فالدولة غير مسؤولة عنه، فهي مسؤولةٌ عنه ما أقام في بلد الإسلام.
فهل وُجِد في كل العالم قانون إنساني عالمي ديني بمثل ما شرّع الإسلام؟ فلماذا يعادي الكثير من النَّاس الإسلام؟ هل لأنّهم علموه؟ لا واللهِ، فالذي يعلم أنّ ثوبي أبيض ويراه فهل يستطيع أن يقول أسود؟ وإذا قال: أسود فهذا دليل على أنه لم يعلم حقيقة لون الثوب.. فيظلمون الإسلام.
والمبتعد عن الإسلام ومسلم الانتماء، لماذا لا يتعلّم؟ ومَن معلّمه؟ وأين مدرسته؟ وأين ثقافته؟ فكان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((طلب العلم فريضة)) ، وقال أيضاً: ((ليس مني إلا عالم أو متعلم)) ، وقال أيضاً: ((إنما النَّاس صنفان: عالم ومتعلم، ولا خير فيمن سواهما)) .
الأمر بالقيام بالتعليم والتزكية والإرشاد
فإذًا خلاصة درسكم: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: 1] فصار مدثرًا ومزملًا بعد الذّكر الكثير والاعتكاف والخلوة والمجالسة والمصاحبة مع الله عزَّ وجلَّ، حتَّى صفت روحه وصار مع ربّه في كلّ مشاعره، فأُمِر بالتّعليم والتزّكية والإرشاد.. وهذا موجَّه إلى كل مسلم، الصّغير مع الصغار، والكبير، والذكر والأنثى، والموظف والعامل، وفي السّهرة وفي المجالسة، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110] تكونون خير أمة بهذه الأوصاف، فإذا كنتم لا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر ولا تؤمنون بالله فلا.
فالمؤمن بالسّم والعارف به هل يتجرعه؟ والمؤمن بالذهب والعارف بحقيقته هل يرفض أخذه ممن يقدّمه له؟ فإذا قدّم لك كأس شاي بلا سكّر، ومعه ثلاثة صحون: صحن فيه ملح وصحن فيه سكر وصحن فيه فلفل، وآمنت أن هذا ملح وهذا سكر وهذا فلفل، فهل يمكن أن تضع الملح في كأس الشّاي؟ لماذا؟ لأنّك مؤمن أن هذا ملح، والإيمان يقتضي العمل، فالملح تضعه على الباذنجان المقلي، أليس كذلك؟ والفلفل هل تضعه فوق المهلبيَّة والرز بالحليب؟ [المُهَلَّبيّة والزر بالحليب: نوعان من الحلوى السورية المشهورة، المصنوعة من الحليب] الفلفل تضعه فوق الرز أو الملوخية.
الإيمان لا يكون بالأماني
كذلك لا تُغَشَّ بأماني الإيمان، بأن تقول: أنا مؤمن وأنا مسلم ((الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل)) .. وهذا لا يكون بالأماني، وهو ككل شيء في الوجود، فهل تصير نجارًا بلا أستاذ النجارة وبلا صحبة النجارين وبلا خدمتهم؟ فالأجير يبقى في خدمة معلمه من الصّباح إلى المساء، وإذا قال له: نظّف المحل، خذ المكنسة فهل يمتنع؟ وإن قال له: احمل القِفَّة، فهل يمتنع؟ وإن قال له: اعمل هذا، واترك هذا، فهل يمتنع؟ حسنًا، وكذلك الحداد، والمهندس في كلية الهندسة والطبيب في كلية الطب.
فلماذا المسلم في تعلّمه للدين لا يبحث عن المعلّم الحقيقي ويعطي أدبّ التّعلم والتّربية حقّها؟ تجد المسلم- مسلم الاسم واللّقب والانتماء- لا يفهم إسلامه ولا يتخلّق به ولا يعرف فرائضه فضلًا عن أدائها، ويرتكب محرماته، ويقول: أنا من المسلمين! على طريقة السّكير الشّيوعي الروسي، يريد أن يكرّم سيِّدنا مُحمَّداً بماذا؟ بجلسة خمر، يحب سيِّدنا مُحمَّداً ﷺ! لذلك من حبه لسيِّدنا مُحمَّد يريد أن يشربوا نخب سيِّدنا مُحمَّد ﷺ! فهل يوجد في مجتمعنا من هذه النوعية؟ ليس بطريق الخمر، لا، بل بخمس مئة ألف طريق، وكلها توصل إلى بعضها البعض.
فإذا متَّ فماذا يبقى معك؟ هل يبقى شهادة أو مال أو وزارة أو حكم أو جاه؟ لعل الذي ذهب أطيب ما في عمرك ولم يبقَ إلّا أرذل العمر، فالنّصف الثّاني أمراض وأوجاع ومشاكل وهموم وأحزان، فاستدرك ما أضعت بمّا تبقى لتسعد فيما تبقى في دنياك، في حياتك الجسدية وفي حياتك السَّماوية لتستدرك.. وإذا أنشأك الله عزَّ وجلَّ من أول حياتك كما قال النَّبي ﷺ: ((سبعةٌ يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله))، أول واحد: ((الحاكم العادل)) انظروا كم الإسلام معتنٍ بالسياسة ورجل السياسة، بأن وضعه في رأس القائمة، وقال: هذا يظلّه الله عزَّ وجلَّ في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، يعني يجعله من أقرب المقربين إلى الله عزَّ وجلَّ، وكذلك الشرطي بعمله، وكذلك القاضي والموظف والوزير.
الثاني: ((وشابّ)) العناية في الشّباب ((نشأ في طاعة الله تعالى))، والثّالث: ((ورجل قلبه معلق في المساجد)) ما معنى معلق في المساجد؟ هل الذي قلبه معلق في الصحون، يعني حتَّى يأكلها؟ أم معلّق بما في الصّحون؟ هل معلق في القدور أي: بنحاسها؟ أم بلحمتها والطّبخ الذي فيها؟
((ورجلان تحابا في الله)) أحببته لأنّه أقوى منك إيمانًا فتستفيد من قوّة إيمانه، وأحبّك ليعلِّمك الإيمان ليكسب رضا الله عزَّ وجلَّ وثوابه ((ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا على ذلك)) يحبّه لا لربح ولا لمصلحة ولا لفائدة، إمّا لأنه يتقرب بعلمه وحكمته وربانيته إلى الله عزَّ وجلَّ، أو ذاك ليعلّمه ويرقِّيه ويزكّيه.
((ورجل دعته امرأةٌ ذات حسن وجمال)) يعني إلى الحرام ((فقال: إني أخاف الله)) ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4].
((ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها)) ليحفظ كرامة الفقير ((حتَّى لا تعلم شماله ما أنفقته يمينه)) .
هل هذا دين؟ هذا الحياة، وهذا النظام، وهذا العالَم الفاضل، وهذا الذي أمكن تحقيقه لمـّا وُجِد رجاله بالقِيامَين: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2] وقوله تعالى: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2].
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.